مهما تعاظم هامش اختلاف أنصاره الذين يؤمنون بفعاليته السياسية، أو معارضيه الذين يشككون في مصداقيته كمعارض، لا يمكن لمراقب منصف للحراك المستمر في الجزائر برغم الرمضاء والفرحة الشعبية بانتصار فريقها الوطني بكأس أفريقيا للأمم، أن ينكر خصوصية اسم سفيان جيلالي من منظور هويته المتعددة الجوانب علمياً وفكرياً وسياسياً. ويكفي لتبرير خصوصيته الحديث عن كتبه التي تصب في صلب رهانات الحراك الشعبي بعيداً عن النظرة السياسية الضيقة التي تميز بعض رفقاء دربه.
جيلالي رقم مهم في معادلة المؤيدين أو الرافضين لحوار مع سلطة ترفض موت جوهرها ولبها وتجدّد قشورها فقط كما يرى معارضوها من الكتاب والأساتذة الجامعيين المؤمنين بثوابت وطنية. وتكمن خصوصية مكانته في اعتباره المعارض السياسي الوحيد الذي لا يناهض السلطة بشكلها السياسي الضيق عبر حزبه “جيل جديد” الحديث النشأة فحسب بل أيضاً يقاوم انعكاسات إرث كبير وثقيل من الممارسات الدينية والاجتماعية غير الصحية بحكم الخلط بين الشكل والمضمون والمبدأ والمنهج وبين الوسيلة والهدف وبين اللب والقشور سواء تحت وطأة الجهل والتقاليد البالية المكرسة باسم الدين أو نتيجة فشل بيداغوجي وتربوي في التعاطي مع تحديات العصر الحديث.
في هذا الحديث الذي جمعنا بسفيان جيلالي على بعد أمتار من ساحة البريد المركزي بالجزائر العاصمة يكتشف القارئ شخصية متميزة تحارب السلطة الفاسدة برشاش المعارض السياسي السلمي وغير التقليدي وبدبابة الفكر العلمي والإنساني الذي يفتك بالذهنيات العتيقة التي تقاوم كسيزيف عجلة عصر يجب مواكبته دون التضحية بالمعتقد الإيماني الذي تحول عند الكثيرين إلى فزاعة باسم إسلام لا ينفر نفوس المؤمنين بوسعته الروحية من أتباعه الكثر فحسب بل يمكن الأعداء من توظيفه حتى يظل دين انغلاق قاتل يتناقض مع سنة تطور الحياة. وتزداد أهمية حديث جيلالي حينما نعرف أنه صاحب كتب تصب بجوهرها الفكري في صلب الحراك الشعبي الأول من نوعه منذ استقلال بلد المليون ونصف مليون شهيد.
(*) ما هي الطريقة المثالية في نظركم لتقديم سفيان جيلالي الكاتب والمعارض السياسي لقراء “ضفة ثالثة”، سيما وأنكم تعتبرون من الكتاب المفرنسين في الأساس، برغم تحولكم إلى مزدوج اللغة، كما يثبت حديثكم في هذه اللحظة باللغة العربية؟
حالياً، أترأس الحزب السياسي المعارض “جيل جديد” الذي أدعي بتواضع أنه ينفرد بخصوصية ثقافية يبررها اسمه، والحراك الشعبي الذي يطغى عليه الشباب يؤكد هذه الخصوصية التي تنطق بتصورات لا تمت بصلة للماضي السياسي التقليدي الذي نسعى لقطع دابره بسلمية ثورية يتابعها العالم بأسره وبكتب فكرية وبنضال ميداني. رغم عملي كطبيب بيطري منذ عام 1983 ومتحصل على دكتوراه في المناعة بفرنسا عام 1988، أكتب منذ 2002، وفي حوزتي اليوم ثلاثة مؤلفات، هي: “الجزائر أمة في ورشة” الصادر عن دار القصبة، و”الجزائر تتساءل”، الذي نشرته على حسابي الخاص، وأخيراً “صدمة الحداثة… أزمة القيم والمعتقدات” الذي صدر عن منشورات “جيل جديد”، وهو الكتاب الذي يصب في صلب ما تعيشه الجزائر من تحولات وتطورات وآفاق يعبر عنها الحراك الشعبي المستمر حتى ساعة الإدلاء بهذا الحديث.
“في حوزتي اليوم ثلاثة مؤلفات، هي: “الجزائر أمة في ورشة” الصادر عن دار القصبة، و”الجزائر تتساءل”، الذي نشرته على حسابي الخاص، وأخيراً “صدمة الحداثة… أزمة القيم والمعتقدات” الذي صدر عن منشورات “جيل جديد””
(*) كيف ومتى برز ميلكم إلى السياسة والفكر في علاقتهما بقضايا وتحديات وطنكم بعد أن أصبحتم تمارسون مهنة الطب البيطري إثر تفوق باهر في الدراسة بفرنسا؟
بدأت أهتم بالسياسة وأنا صغير السن من خلال قراءتي المبكرة للصحف والمجلات الوطنية والدولية في مكتبة أبي رحمه الله، ووقتها لم أكن أفكر إطلاقاً بممارسة السياسة كما أفعل اليوم على رأس حزب “جيل جديد” بسبب لغة الخشب التي كانت مسيطرة. استمر هذا الشعور وأنا طالب في جامعة تسيطر عليها حركات تابعة للنظام السياسي، وحدث التحول الذي يفسر ما أنا عليه اليوم بعد أحداث أكتوبر/ تشرين الأول 1988، ويومها قررت دخول المعترك السياسي مؤمنا بالديمقراطية الناشئة كما كنت أعتقد رغم أنني كنت ما زلت أدرس في باريس كباحث في المعهد الوطني للأبحاث الفلاحية وتحديداً في المدرسة الوطنية لطب البيطرة.
الاحتكاك مع أناس يمثلون ثقافات متنوعة
(*) إلى أي حد نستطيع القول إن أثر وإرث عمكم الراحل العلامة عبد الرحمان جيلالي ساهم في اهتمامكم بموضوع أزمة القيم والمعتقدات إلى جانب اعتبارات أخرى علما أنه كان قد اشتهر بتمثيله إسلاما تقليديا متجذرا اجتماعيا والذي تحاولون تجاوزه بروح فكرية معاصرة لا تتناقض مع جوهره؟
كنت منبهرا بثقافته الدينية والعلمية الكبيرة وباستعداده المستمر لخدمة كل من يريد التعلم والاستفسار، وللأسف لعب فارق السن دورا في عدم الاحتكاك به مبكرا الأمر الذي عطل تاريخ الاستفادة منه كما يجب، وكان من الطبيعي أن تلعب قوته العلمية في مجال تخصصه وسمعته وحضوره دورا حاسما ومحددا في المكانة التي احتلها عائليا في مجتمع تقليدي ومحافظ بوجه عام. قبل تاريخ تقربي منه وهو مسن، احتككت بأوساط دينية منفتحة مكنتني من دراسة القرآن وبأوساط أخرى أكثر انفتاحا، وزاد تنوع احتكاكي الاجتماعي لاحقا في الجامعة وفي ميادين ممارسة رياضة ركوب الخيل، وتعمق الأمر أكثر وأنا طالب في فرنسا، وكما تعرفون فإن الاحتكاك مع أناس يمثلون ثقافات متنوعة أخرى ومقاربات فكرية ودينية أخرى يمكن المرء من مقاربة مجتمعه بكثير من التفكير العميق والتجاوز والتحليل المقارن والنقدي الأمر الذي يسمح بمقاربة المختلف عنه والقبول به دون الانسلاخ عن جوهره الثقافي والديني والحضاري.
“الاحتكاك مع أناس يمثلون ثقافات متنوعة أخرى ومقاربات فكرية ودينية أخرى يمكن المرء من مقاربة مجتمعه بكثير من التفكير العميق والتجاوز والتحليل المقارن والنقدي”
(*) مسار تاريخ هويتكم الفكرية والسياسية والعلمية يبعث على الإعجاب والتقدير لخصوصيته وتنوعه وأصالته، فكيف تفعلون اجتماعيا وعمليا للتوفيق بين مختلف أوجهها التي تحتاج إلى كثير من الوقت والجهد باعتباركم أسيرا لحب ثلاثي النزعة والتوجه والاهتمام؟
عشت عشقي الموزع عبر الاختصاصات المذكورة خلال فترات مختلفة في أوقات مختلفة بإيقاع الشغوف بما يقوم به في كل الحالات. بعد تكوين علمي جامعي شامل (دبلوم الدراسات المعمقة ودكتوراه الحلقة الثالثة ودكتوراه الدولة) في المجال الذي تخصصت فيه لاحقا إثر حصولي على منحة حكومية، فتحت لنفسي في فرنسا آفاقاً علمية مشرعة على تخصصات أخرى تبدأ بالفيزياء النووية التي أبهرتني وتعرج على التاريخ وتنتهي بالبيولوجيا. هذه الثقافة العلمية وظفتها كلها في كتاباتي على هامش ممارستي السياسية انطلاقاً من قناعاتي التي كان وما زال يمثلها ويكرسها الحزب الذي يشارك إلى جانب معارضات أخرى في إرساء قواعد ومثل التعبير الحر والهادئ والمسؤول دون شتم وتجريح وإقصاء أحد في كنف احترام الرأي والرأي الآخر.
(*) ما هامش أهمية الكتابة في حياتكم كسياسي يفكر في قضايا مجتمعه على النحو الذي أعطى مصداقية لكتبكم الأقوى في صناعة الرأي والرأي الآخر على المدى الطويل على عكس الممارسة السياسية التي تعد شغفا أيضا لكن نتيجة لفكركم الذي يصب اليوم في صلب الحراك الشعبي الأول من نوعه في تاريخ الجزائر المعاصر؟
الكتابة هي التحاور مع النفس قبل التوجه إلى الآخرين، وهي طريقة لترتيب الأفكار ومدها بالمعنى المطلوب. بعد ابتلاع المئات من الكتب حتى لا أقول الآلاف يصبح بين أيدينا عدد هائل من الأفكار والتصورات والقناعات، وتتحول هذه التجربة الإنسانية الكبيرة والعميقة مع مرور الوقت إلى خزان معرفي يحتاج إلى ترتيب وهنا تصبح الكتابة ضرورة حتمية إذا كنا نطمح إلى المساهمة بطريقة ما في تحسين ما يحيط بنا وما نعيشه في المجتمع. من جهته، الالتزام السياسي يخضع لشروط ولضرورات، وعليه يمكن القول إنني أتيت إلى السياسة عن طريق الفكر وهكذا يمكن القول إن مقاربتي قد تمت بشكل عقلاني.
من حزب التجديد إلى “جيل جديد”
(*) إلى أي حد يمكن أن نربط بين ترككم حزب التجديد الجزائري الذي أسسه الكاتب والوزير السابق نور الدين بوكروح وبين تأسيسكم حزب “جيل جديد” لاحقا من منظور نقد ذاتي نتج عن نضج أكبر، ولما لا عن خلافات شخصية أو عن تصورات وطموحات خاصة فرقت بينكما رغم أنكما تعدان خريجي معدن فكري واحد في المحصلة النهائية؟
التحقت بحزب التجديد تلبية لنداء مؤسسه نور الدين بوكروح في آب/ أغسطس 1989 حينما كنت طالبا في فرنسا. في أول تجربة سياسية تمكنت من تأسيس جمعية حزب التجديد في فرنسا مع الإطارات الأولى وأصبحت سكرتيرا عاما بعد عودتي إلى الجزائر في حزيران/يونيو 1991. أعترف اليوم أن تجربتي في هذا الحزب كانت كبيرة ومفيدة وتعلمت خلالها الأشياء الكثيرة بحكم عدم حيازتي وقتها على تصور واضح عن إشكاليات مجتمعنا. كنت مرتاحا في الحزب من وجهة نظر سياسية لكن مع مرور الوقت فعل البعد الإنساني فعلته الطبيعية وبرزت على السطح إخفاقات توجت في النهاية بعدم توافق أدى إلى توجه كل واحد فينا نحو درب جديد.
“بعد ابتلاع المئات من الكتب حتى لا أقول الآلاف يصبح بين أيدينا عدد هائل من الأفكار والتصورات والقناعات، وتتحول هذه التجربة الإنسانية الكبيرة والعميقة مع مرور الوقت إلى خزان معرفي يحتاج إلى ترتيب”
(*) أنتم معنيون بتركة المفكرين الراحلين محمد أركون وعلي مراد بحكم أنهما اهتما ودرسا واشتهرا بإشكالية تحديث الفكر الإسلامي في فرنسا التي درستم فيها وبالتالي مكنتكم من دراسة فكرهما. الأول اشتهر أكثر وحظي باهتمام يلامس التقديس في فرنسا العلمانية والثاني ألف كتبا مرجعية هامة مثل أركون لكنها لم تروج إعلامياً رغم تركها أثرا عميقا في جيل كامل من الجامعيين كما تبين لي في ندوة نظمها المركز الثقافي الجزائري في ذكرى رحيله. يومها حضر تلامذته الذين أصبحوا اليوم أساتذة في جامعة ليون ٢ وكلهم اعترفوا بقوته الفكرية والمنهجية إلى درجة أضحى الأكبر والأهم في نظر البعض على الرغم من عدم تبنيهم توجهه الإسلامي خلافا لأركون الذي عاش علمانيا قلبا وقالبا. أين أنت من الاثنين اللذين اختلفا في منعرج ما آلت إليه العلمانية بعد تحولها إلى دين على حد تعبير الفيلسوف الكبير إدغار موران الذي يموت في فرنسا ببطء مهمشا إعلاميا هو الآخر؟
بقدر ما جمعتهما توافقات ونقاط مشتركة بقدر ما فصلت بينهما خلافات فكرية عميقة. جمعتهما المعاصرة الفكرية وأعتقد أنهما تحصلا على التبريز في نفس الدفعة. وفي تقديري يبقى أركون مفكرا حيال الفعل الديني في حين يمكن القول إن مراد قد اعتنقه إيمانيا فضلا عن دراسته وعرف عنه التزامه الإسلامي جهرا. انطلاقا من هذا المعطى المرجعي والجوهري نلاحظ أن ذاتية مبدئية قد فصلت بينهما في الوقت الذي جمعتهما دراسة الإسلام باعتباره الكون المحدد لحياة المسلم. من جهتي فهمت مقاربة الاثنين لكن في عملي قاربت المجتمع الجزائري من منطلقات جديدة، ولم يكن همي دراسة الإيمان أو العبادة أو الفقه الديني ولكن محاولة فهم جذور الذهنية في البلد.
(*) لكنكم استنطقتم من منظور أركون المنهجي الأنثربولوجيا بوجه خاص من منطلق التوظيف العام للعلوم الإنسانية المعاصرة.
بالفعل، وهذا ما تم مع تعميقي الفكري من خلال قراءات كثيفة مكنتني من التأكد أن مجتمعنا يستعمل الإسلام كحزام للشد ببنيات بدائية عميقة، وبفضل مفاتيح الأنثربولوجيا تمكنت من تخصيب مقاربتي الفكرية للمضي في معالجة ما أسميته بصدمة الحداثة والقيم والمعتقدات في المجتمع الجزائري، وخاصة من خلال ثلاثي الأرض والبنية العائلية والمعتقدات الدينية باعتباره أرضية مجتمعنا. المنظور الأنثربولوجي سمح لي باكتشاف الشرخ الكبير الذي أصبح يفصل بين مكونات المجتمع التقليدي وبين العالم الحالي الأمر الذي يفرض تطورا معاصرا، ومتابعة توجهه وكيفية الاستعداد للتعامل معه تشكلان همي الذي أكرس له مكانة خاصة في حياتي الفكرية.
(*) لا يمكن مقاربة المجتمع الجزائري الذي يعد جزءاً من العالم العربي والإسلامي دون الاصطدام بأشكال التدين التقليدي كما درستموه وباللغة والتراث الثقافي بوجه عام، وكما تعرفون ليس من السهل استنساخ قوالب أجنبية باسم الفكر الإنساني في مجتمعات وجدت نفسها في تصادم ثان جراء توظيف أيديولوجي وسياساوي لعلمانية فرنسية معني بها الجزائري أكثر من أي عربي أو مسلم بحكم خصوصية علاقته بفرنسا ماضيا وحاضرا وحتما مستقبلا. إدغار موران أحد آخر وأكبر الفلاسفة الفرنسيين عالج الأزمة الفكرية التي تعاني منها العلمانية الفجة والتسلطية بروح دينية متزمتة وشوفينية في كتابه “نحو الانهيار”، وهي العلمانية التي تذوب فيها توجهات فكرية لا تختلف في مقاربتها الإسلام على وجه التحديد بروح استشراقية مستمرة تثبت أن الإسلاموفوبيا لم تبدأ مع هجمات الحادي عشر من سبتمبر باسم محاربة التطرف الإسلامي والإرهاب المرتكب باسم الإسلام تحديدا. ما تعليقكم؟
لا شك في أن العلمانية قد تحولت في بعض مظاهرها إلى دين جديد رغم أن تاريخها الأوروبي الخاص قد درس من منطلق الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت واليهود الأمر الذي اقتضى وضع الدين تحت الرقابة. إن الشعوب تنتج أيديولوجياتها حسب واقعها المعيش وحينما تحولت العلمانية إلى علمانوية بروح أيديولوجية تبين أنها أصبحت مبررا لطرد الإسلام من المجتمع في نظر البعض من باب التأثر بالغرب الذي أصبح حساسا تجاه الدين بوجه عام في الوقت الذي يعد فيه من المستحيل تطبيق العلمانية الغربية على مجتمع مسلم مثل مجتمعنا. في تقديري، الدين كان دائما حاجة روحية عند الإنسان وسيبقى في حاجة له تحت وطأة القلق الوجودي الذي يدفعه نحو البحث عن معنى سر الحياة، وبالنسبة للمؤمن لا يمكن مقاومة هذا البحث. مجتمعنا مؤمن بعمق ولا يجب أن يحترم فحسب بل يجب مساعدته على فهم ضالته الدينية من أجل مجتمع سليم. الغرب وأوروبا بوجه خاص دخلا في حداثة قائمة على عقلانية ومادية استهلاكية وفردية نرجسية وفي المقابل استطاعا أن يحققا تقدما علميا وتكنولوجيا غير مسبوق لكنهما فقدا في الوقت ذاته الروحية الضرورية وسيطرت عليهما اللامبالاة الضرورية للعلاقات الإنسانية والتضامن بين الأفراد، ومن هذا المنظور أوافق موران عند تحدثه عن التفسخ، والمجتمع المتوازن يجب أن يقوم على ازدواجية تضمن حاجات الروح والجسد، ومجتمع دون روحانية هو مجتمع مقطع يتعرض لانحرافات جسيمة.
“المنظور الأنثربولوجي سمح لي باكتشاف الشرخ الكبير الذي أصبح يفصل بين مكونات المجتمع التقليدي وبين العالم الحالي”
الحراك والمعارضة والشباب
(*) نصل إلى الحراك الجزائري الذي ما زال يشد أنظار العالم في علاقته بتوجه حزبكم الشبابي النزعة كما تدل عليه تسميته “جيل جديد” لأسألكم: هل تظنون أن طغيان الشباب على الحراك بعيداً عن كل الشعارات الأيديولوجية النخبوية والدينية التقليدية يعني أنه يعبر فعلا عن حداثة استباق ولو على الصعيد الرمزي فكريا واجتماعيا في الوقت الذي يجمع فيه الكثيرون على أن الحراك هزم الجميع بمن فيهم النخبة السياسة والفكرية التي تنتمي إليها بانفجاره السلمي وغير المسبوق قلبا وقالبا دون قيادات معارضة تقليدية سواء تعلق الأمر بالأحزاب أو الشخصيات؟
لقد نشط حزبنا بقوة منذ نشأته عام 2011 بغرض تكوين خطاب تجسده الأجيال الجديدة ولا أعرف تحديداً المدى الذي وصل إليه لمعرفة طبيعة ودرجة دوره المباشر في انفجار الحراك الشعبي ولكن أستطيع التأكيد أن حزبنا كان حاضرا منذ البداية وأنا شخصيا تظاهرت وما زلت أتظاهر وسط الشعب ولم أعامل كما تم مع سياسيين معارضين آخرين كما تعلم، وأدبيات حزبنا غير التقليدي كما أحاول أن أبين ذلك عبر كتبي لا تتحمل أي طعن في مصداقية خطاب ينسجم تماما مع معارضتنا للنظام الهرم والفاسد. في الميدان لم ندخر أي جهد منذ آب/ أغسطس من العام الماضي بمناهضتنا العهدة الخامسة، ولقد سمحت حركة “مواطنة” في الجزائر وفي الخارج بتعبئة الجزائريين. للتاريخ وللأمانة الأخلاقية أعترف أنني لم أكن أتوقع الوعي الشعبي الذي فاق كل التصورات وعبرت عنه ثورة الابتسامة، ولا تستطيع اليوم أن تتصور سعادتي وأنا أرى نضالنا يتجسد بالشكل الذي ما زال مستمرا حتى ساعة الإدلاء بهذا الحديث. بكل تواضع أضيف أن ما تناولته في كتابي الأخير “صدمة الحداثة …أزمة القيم والمعتقدات” كان يعد ربما رأيا أو تنظيرا فكريا لكن تاريخ 22 شباط/ فبراير كان تطبيقا فعليا لما كنت أقوله، الأمر الذي يريحني من منطلق تصوري للمجتمع الجزائري ولتطوره.
“مجتمعنا مؤمن بعمق ولا يجب أن يحترم فحسب بل يجب مساعدته على فهم ضالته الدينية من أجل مجتمع سليم”
(*) هل طغيان الشباب في الحراك وغياب الإسلاميين النسبي والسلفيين تحديدا يعني أن الحداثة التي تلحون عليها في طريقها إلى المجتمع دون أن يعني ذلك التخلي عن الإسلام كمقوم حضاري وروحي متجذر في المجتمع على النحو الذي لا يقبل في الوقت نفسه استنساخا أوتوماتيكيا مع علمانية أضحت أيديولوجية معادية للإسلام ورمز حداثة معطوبة وتسلطية؟
هذا ما قلته حينما أشرت إلى صدمة الحداثة في كتابي الأخير، وطغيان الشباب في الحراك بالشكل الذي رأيتموه لا يعني انسلاخا اجتماعيا كما يرى المتشبثون بالشكليات الدينية وإنما يعبر عن وعي سياسي يطالب أصحابه بحرية اجتماعية وفكرية للجميع في ظل احترام القيم الدينية والأخلاقية الجمعية. الحداثة لا تعني معاداة الدين كضرورة روحية والتدين لا يجب أن يكون شكليا ومانعا لكل تفسير علمي للظواهر والمشكلات الوضعية وقاهرا للاجتهاد وللحرية الفكرية والانفتاح على الآخر المختلف، كما أنه ليس من الحداثة السقوط في الفردية الاستهلاكية والانحلال التام الأمر الذي يؤدي إلى انهيار حضارة الإنسان نفسه. إن طريقنا إلى توازن منشود ليس سهلاً، نظراً لتراكم الثقافة الدينية التقليدية المرادفة لعبادات خارجية تطغى على الجوهر الذي يجعل من الله حباً وترغيباً وليس إكراهاً وترهيباً.
“الحداثة لا تعني معاداة الدين كضرورة روحية والتدين لا يجب أن يكون شكليا ومانعا لكل تفسير علمي للظواهر والمشكلات الوضعية وقاهرا للاجتهاد وللحرية الفكرية والانفتاح على الآخر المختلف”
(*) هل تسلمون في الأخير أن الحراك الشعبي السلمي الذي تعرفه الجزائر قد تجاوز بتجلياته وبأبعاده المختلفة والمبهرة كل ادعاء فكري يعتقد صاحبه مثقفا كان أم لا بأنه ساهم في بلورة هكذا احتجاج نوعي بكل المعايير مهما كان مستوى ما قدمه بعض الكتاب والإعلاميين القلائل من دور لا يستهان به خلال حكم الرئيس المخلوع؟
صحيح أن القليل من المثقفين ساهموا في استباق تطور المجتمع كما نراه حالياً، ومعك حق مبدئيا لأن الذين يسمون أنفسهم بالمثقفين لم يقوموا بدراسات فكرية عميقة للمجتمع بالشكل الذي يكشف عن ديناميكية ووعي شباب الحراك واكتفوا بوصف صورة المجتمع. أكرر وبكل تواضع أننا كنا في حزبنا “جيل جديد” من القلائل الذين درسوا المتغيرات الأنثربولوجية القائمة قبل بروزها إلى العلن بشكل بديهي. ربما لم نلفت الانتباه المنتظر بسبب بقاء خطابنا الفكري محصورا في إطار ضيق نتيجة عدم تواصل الأوساط الجامعية المتخصصة في العلوم الإنسانية معنا. وثمة عامل آخر لعب دورا في عدم بروز مساهمتنا الفكرية المذكورة، يتمثل في خروجي من أفق علمي غير تقليدي، وهو الأفق الذي ارتبط بتخصص يحاول صاحبه كسر واختراق السائد من المقاربات الكلاسيكية.