التأمل الرابع: الجزائر الجزائرية
بقلم: سفيان جيلالي
“المشكلة المطروحة بشكل صحيح هي نصف الحل.”. هنري برغسون
خلال العقود الأخيرة، وجدت الجزائر نفسها غالبًا وسط اضطرابات سياسية ودبلوماسية وإعلامية.
بعد أشهر قليلة فقط من نيل استقلالها، تعرضت لمحاولة عسكرية لاقتطاع جزء من أراضيها من قبل المغرب الأقصى. وبينما كانت تضمد جراحها النازفة من حرب طويلة ودامية دامت سبع سنوات، وتتطلع بعد 132 عامًا من الاستعمار إلى استعادة حريتها وإعادة الاندماج في تاريخ الأمم، تم تذكيرها بعنف بحقيقة أساسية: أن تكون صاحب سيادة يعني أن تكافح ضد النهب؛ فالإمبراطوريات والمقاومة لا تزال على جدول الأعمال.
بدأت الجزائر تشق طريقها نحو مصيرها، فخورة ومصممة، مركزة على تحقيق أهداف التقدم وتحديث بلد كان الجهل والأمية والخرافات والفقر فيه مترسخة، لكنها اقترنت بمثل ثورية تطمح إلى العدالة والمساواة. كانت الخيارات السياسية واضحة: الحزب الواحد، الاشتراكية، التقدمية، المركزية، ومناهضة الإمبريالية.
بعد 27 عامًا، أصبحت التناقضات الداخلية للنظام لا تطاق. غياب الحرية، الفكر الواحد، البيروقراطية، المحسوبية، والزبونية… كل هذه الآفات الناتجة عن محدودية الحوكمة كشفت عن فشل المقاربة المتبعة.
في تلك الفترة، تغيرت الأجواء العالمية. أصبحت مفاهيم “الغلاسنوست” و”البيريسترويكا” السوفياتية شائعة. تبنت الجزائر هذه المفاهيم. بدا أن الديمقراطية على بعد خطوات، مع اقتراب استفتاء دستوري. لكن الرد كان عنيفًا. عانت الأمة، المثقلة بتاريخ درامي طويل، من صراعات داخلية طاحنة. أدى ظهور مفاهيم تقليدية عتيقة إلى اصطدام عنيف مع واقع عالم لم تكن تملك الجزائر مفاتيحه. ومع فقدانها لذاكرة حية لماضيها، أصبحت تشكك في ذاتها، في هويتها، معتقداتها، ومستقبلها. دخلت البلاد في عقد من العنف الداخلي محاولةً طرد شياطينها.
كانت تجربة مأساوية بكل المعايير، لكنها تمكنت في النهاية من تجاوز أزماتها، وبدأت تنهض تدريجيًا. بعد أن نضجت عبر المحن واستفادت من تجارب العديد من الدول “الشقيقة”، لم تتخل الجزائر عن مرجعياتها الأساسية، لكنها أعادت توجيه أهدافها.
استمدت الجزائر صمودها من عمق تاريخي يمتد إلى قرون قبل الميلاد. ورغم محاولات التعتيم الأيديولوجي، عادت ذكرى نوميديا تدريجيًا إلى الوعي الوطني. ففي القرن الثاني قبل الميلاد، قام ماسينيسا بتوحيد المغرب الأوسط في دولة واجهت قوتي روما وقرطاج، الإمبراطوريتين المتنافستين اللتين هيمنتا على البحر الأبيض المتوسط.
ورغم تعاقب الغزوات من إمبراطوريات مختلفة، تمكن شعب المغرب الأوسط دائمًا من الحفاظ على هويته العميقة. وبعد اعتناق الإسلام، تعاقبت عدة سلالات محلية على حكم الدولة. فقد نظم أجداد الجزائريين أنفسهم تحت لواء الرستميين، الزيريين، الحماديين، الموحدين، الزيانيين، ثم، بعد الحقبة العثمانية، مملكة الجزائر. تثبتت كتابات المؤرخين عبر العصور والرسائل الدبلوماسية المؤكدة ليس فقط وجود هذه الكيانات، بل أيضًا سيادتها، والتي أُطلق عليها أحيانًا اسم “جمهورية الجزائر”.
أما الحدود بين المغرب الأوسط والمغرب الأقصى، فقد كانت تاريخيًا تتبع مجرى نهر ملوية، الذي أصبح الآن جزءًا من المملكة المغربية، على بعد حوالي ثلاثين كيلومترًا من الحدود الجزائرية المغربية. وبالنظر إلى التاريخ، إذا كان هناك أي تصحيح للحدود، فيجب أن يكون لصالح الجزائر!
أما الجنوب، قليل السكان بسبب قساوة طبيعته وضعف كثافته السكانية، فقد كان لفترة طويلة فضاءً شبه مفتوح يربط بين الشمال ومنطقة الساحل. ومع ذلك، فإن القبائل المتناثرة التي عاشت هناك كانت دائمًا تقدم الولاء للجزائر. ومن ثم، فإن الادعاء بأن فرنسا هي من أنشأت الجزائر وأعطتها اسمها هو محض دعاية مغرضة.
إن المزاعم المغربية وبعض التيارات الصهيونية الفرنسية واليمينية المتطرفة التي تنكر وجود دولة وأمة جزائرية لا أساس لها. وإذا لم يكن هناك دولة قومية بمعناها الأوروبي الذي بدأ يتشكل منذ القرن السابع عشر، فمن السخيف إنكار وجود الدول المتعاقبة في المغرب الأوسط.
علاوة على ذلك، فإن إنكار بعض “المؤرخين الزائفين” الغربيين المعادين للجزائر والمرسليين المغاربة بشأن الأمة الجزائرية في التاريخ القديم يجب أن يمتد منطقيًا إلى بعض الأمم الأوروبية التي لم تظهر إلا في أواخر القرن التاسع عشر، مثل ألمانيا (1871) أو إيطاليا (1861)، وحتى بالنسبة لبعضها بعد انهيار الإمبراطورية النمساوية المجرية (1918)، ناهيك عن الدول التي وُلدت من العدم على أراض لم تكن قد احتلتها من قبل، سوى في خرافاتها الأسطورية للأرض الموعودة!
وفي الواقع، فإن هذا الإنكار هو خطاب أيديولوجي يسعى إلى تبرير أطماع استعمارية.
في عالم انهار فيه القانون الدولي وفقد كل فعاليته، أصبح المجال مفتوحًا لجميع القوى الطامعة. لكنه سيبقى مفتوحًا أيضًا للدفاع المشروع عن النفس!
الجزائر ستبقى حية وستظل بلا شك جزائرية، كما كانت دائمًا!
سفيان جيلالي
يتبع: أي سيادة للجزائر؟