التأمل الخامس: أي سيادة للجزائر؟
بقلم: سفيان جيلالي
“المشكلة المطروحة بشكل جيد هي نصف الحل.” – هنري برجسون
لم يكن المغرب الكبير يومًا إمبراطورية، ولكنه بثرائه وتنوعه قاوم باستمرار أطماع القوى التي حاولت ابتلاعه.
ومع ذلك، فإن عقلية “المحاصر” التي تشكّلت لديه لا يمكنها أن تمكنه من التطور بشكل متناغم أو أن تجد سبيله نحو الازدهار.
وفي انتظار أن تعود الدول الثلاث التي تشكّل هذا الكيان إلى زمن الموحدين وتصبح قطبًا للرخاء، بل حتى نموذجًا لدولة-حضارة، يتعين على كل واحدة منها أن تفكر في بناء مقومات سيادتها الخاصة.
بالنظر إلى تاريخها، يجب على الجزائر أن تضمن وجودها من خلال تعزيز وسائل سيادتها. ومع ذلك، لا يمكن لأي دولة أن تبقى في عزلة مكتفية ذاتيًا. فكيف يمكن إذن تحقيق الأمن والاستقرار السياسي والازدهار، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الديناميكيات الحالية للأزمات الجيوسياسية باتت تشكل خطرًا كبيرًا؟
إن الخيارات الاستراتيجية للجزائر في مجالات أمنها وسيادتها، سواء السياسية أو الاقتصادية، كانت إلى حد كبير محددة بشكل مسبق من خلال تاريخها الحديث، نضالها المسلح ضد الاستعمار، ومحاولاتها لبناء دولة ما بعد الاستعمار. وقد كان عليها مواجهة هذا التحدي في ظل غياب النخبة، ورواد الأعمال، واقتصاد قوي، وحتى ثقافة إدارية باستثناء إرث بيروقراطي يعقوبي كان في خدمة الاستعمار طيلة 132 عامًا.
بعد اثنين وستين عامًا من الاستقلال، لم تجد الجزائر بعد مكانتها الحقيقية. على وجه الخصوص، لم تتمكن من التوفيق بين حاجتها إلى الاستقلال الاقتصادي واعتمادها الكبير على الخارج.
في السبعينيات من القرن الماضي، سعت الجزائر إلى محاربة الجهل والأمية العامة من خلال التعليم الجماهيري، كما حاولت بناء نسيج إنتاجي عبر سياسة “الصناعة المولدة للصناعة”، وقادت “ثورة زراعية” لتحقيق العدالة تجاه أهل البادية الذين، رغم معاناتهم من الفقر المدقع في ظل “الإمبراطورية” الفرنسية، شكلوا الأغلبية الساحقة للمجاهدين المحررين للوطن.
لكن الدولة الاشتراكية المركزية، التي اعتمدت على جيش شعبي وحزب وحيد، فشلت في النهاية بعد ثلاثة عقود من وضع البلاد على مسار الحداثة. فقد حالت عوامل عدة دون تحقيق هذا المشروع، مثل استغلال الهوية، تسييس الدين، غياب نخبة مؤهلة، وصرامة نظام “الديمقراطية الشعبية” الذي يفتقر إلى أسس متماسكة، مما أدى إلى أزمة عميقة تمظهرت في شكل إرهاب هستيري.
في بداية الألفية الثالثة، وعلى مدار عشرين عامًا، سلكت الجزائر مسارًا آخر، هذه المرة ليبراليًا. وكان العالم الأحادي القطب قد فرض نفسه منذ أكثر من عقد. وبدا أن الهيكل الجيوسياسي أصبح نهائيًا، وموقع الجزائر في التقسيم العالمي الجديد للعمل لا يمكن أن يكون إلا متواضعًا.
كان على الجزائر أن تضمّد جراحها الداخلية لتجنب أي اضطرابات شعبية، أن تبيع محروقاتها، وأن تفتح أسواقها لشركاء باتوا أكثر تطلبًا وجرأة. عادت شراهة الإمبراطوريات السابقة، في وقت كان فيه النظام الوطني منهكًا، منقسمًا، يفتقر للطموح سوى الحفاظ على موقعه في إدارة الريع.
في 2019، وضع الشعب حدًا لهذا الاحتضار. لكن منذ ذلك الحين، بقيت البلاد في حالة تعليق، بلا توجيه فعّال، بلا رؤية، بلا مشروع واضح أو هدف محدد.
وفي انتظار مواجهة التحولات الحتمية في طبيعة النظام السياسي، ينبغي تحديد موقع الجزائر في المشهد الجيوسياسي والجيو اقتصادي بدقة وذكاء.
انتهى عهد “الصناعة المولدة للصناعة”. ولا تزال التكنولوجيا العالية بعيدة المنال لفترة طويلة. كما أن المحروقات في طريقها إلى التراجع. ولا يمكن للاستراتيجية الحالية القائمة على إدارة الاقتصاد بالبيروقراطية، والحفاظ على السلم الاجتماعي بتوزيع الريع، وإبقاء الشعب يحلم بشعارات قديمة، أن تضمن المستقبل.
يجب على الجزائر أن تتفاوض من أجل دور مستدام في الاقتصاد العالمي، أن تحافظ على سيادتها، وأن تنفتح في نفس الوقت على شركاء بعلاقات تحقق المكاسب للطرفين دون الوقوع في أطماع الإمبراطوريات.
يمكن للجزائر أن تصبح رابطًا بين الغرب والشرق، بين الغرب الليبرالي والجنوب العالمي.
ينبغي لها أن توازن علاقاتها عبر التحرر من دوامات الصراعات، مع لعب دور فاعل في حلها.
يجب أن تكون نقطة تقاطع بين مصالح مجموعة السبع ومجموعة البريكس+، وأن تتحول إلى منطقة عبور بين الإمبراطوريات دون أن تبتلعها أي منها.
تملك الجزائر العديد من المزايا لتحقيق ذلك: قربها الجغرافي من أوروبا، نافذتها على البحر المتوسط، بوابتها إلى قارة إفريقيا التي تزداد أهمية، مواردها المعدنية والطاقة الغنية، وبنيتها التحتية المتنامية.
لكن يتعين عليها تهيئة الشروط اللازمة لتحقيق هذا المشروع: إصلاح النظام السياسي، ترسيخ شرعية سياسية لا جدال فيها، وبناء حوكمة قائمة على الجدارة والكفاءة.
سفيان جيلالي