Temps de lecture : 3 minutes

بقلم: سفيان جيلالي

دخلت الجزائر منذ عقد من الزمن المرحلة النهائية من عمر جمهوريتها الأولى. فبعد أكثر من ستين سنة من الاستقلال، أصبحت البلاد متحمسة ومستعدة للجمهورية الثانية، التي وحدها يمكن أن تدفعها إلى الأمام في عالم يشهد تحولات جذرية. وللتحضير لهذا المستقبل، يجب أولاً فهم الديناميكيات التي كانت حاضرة خلال هذه المرحلة.

منذ الاستقلال، شرعت البلاد في بناء نظام سياسي مستمد جذوره من حرب التحرير، وهي بدورها نتاج لثقافة وطنية تشكلت خلال 132 سنة من الاستعمار.

كان الهدف الاستراتيجي للسلطات المتعاقبة، رغم غموضه وضعف تصوره، هو بناء دولة حديثة وذات سيادة، وتثبيت دعائم الأمة التي لطالما طمرتها تقلبات التاريخ، وتجاوز الانقسامات الداخلية التي قوضت البناء السياسي بعد الاستعمار.

اعتمدت السلطة لتحقيق هذا التحول على أدوات مثل: ضمان أمن الدولة، المركزية السياسية والإدارية في تسيير الأرض والسكان، التحكم في الريع، وفرض فكر شعبوي أحادي.

غير أن المعطيات الأساسية تغيرت بشكل كبير بعد ثلاثة عقود من الاستقلال. فقد تضاعف عدد السكان، وأصبحت الأجيال الجديدة متعلمة إلى حد بعيد، ودخل المجتمع التقليدي في مرحلة اضطراب بل وتفكيك.
ظهور قيم جديدة اعتُبرت حديثة، لا سيما تلك التي تتعلق بتطور مكانة المرأة في مجتمع يتجه نحو المدنية، فتح آفاقاً جديدة، لكنه في الوقت ذاته أثار قلق الفئات الأكثر محافظة.

في أواخر ثمانينات القرن الماضي، جاء انهيار النموذج الاقتصادي الاشتراكي نتيجة لتراجع عائدات المحروقات بسبب اضطرابات دولية. فانفجرت الأزمة الاقتصادية، وتصاعدت البطالة، وساءت ظروف المعيشة، مما أدى إلى انهيار العقد الاجتماعي.
ولم تكن الأزمة اقتصادية فقط، بل رافقها تفكك للقيم التقليدية واضطراب في الهوية، مما أفقد السلطة السياسية شرعيتها. الحزب الواحد والاشتراكية استنفدا قدرتهما دون أن يؤسسا لديناميكية تنمية فعلية. كانت شرائح واسعة من المجتمع تغلي غضباً وتلهفاً للتغيير. أصبح الانفتاح السياسي، على النموذج الليبرالي، أمراً لا مفر منه.

في العالم آنذاك، كانت الصين لا تزال دولة نامية، والاتحاد السوفييتي يتهاوى. ولم يعد هناك نموذج بديل عن النموذج الليبرالي الغربي المنتصر بوضوح.
أصبح الحفاظ على استقرار البلاد وسيادتها ودفع عجلة التنمية تحديًا كبيرًا في ظل تآكل «الشرعية التاريخية» للحكم، والأزمة الاجتماعية، وظهور رد فعل أصولي إسلامي عنيف وشعبوي.

حاولت السلطات حينها توجيه البلاد نحو النموذج الديمقراطي، ففتحت المجال السياسي والإعلامي، وشرعت في تحرير الاقتصاد تحت إشراف المؤسسات المالية الدولية.
لكن سرعان ما هيمنت العنفوية الإسلامية على المشهد، وتحول الإرهاب إلى حرب أهلية باسم مشروع أيديولوجي ديني وضمن مسار ديمقراطي مبتور.
انهارت الدولة جزئياً، ولم تبقَ إلا المؤسسة العسكرية حامية لبقائها.

استمر هذا الانهيار العنيف للنظام السياسي عقدًا كاملاً، تلاه عقد من إعادة البناء، سمح للدولة بالبقاء. ومنحت الطفرة في أسعار المحروقات في سنوات 2000 والنشاط الدبلوماسي الكثيف للسلطة السياسية آنذاك، مهلة ضرورية للبلاد.
وكان الشعب، المتألم من سنوات الإرهاب، يتوق إلى طي صفحة العنف، فآثر اللجوء أو الاستكانة إلى الدولة ومؤسساتها.

غير أن الأخطاء الاستراتيجية والأخلاقية الجسيمة التي ارتكبتها السلطة، خاصة منذ بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، أعادت فتح الباب أمام القوى الهدامة.
وهذه المرة، مست الأزمة صميم النظام نفسه.
ذلك أن السلطة السياسية وضعت مصلحتها الأنانية فوق مصلحة الوطن. وللحفاظ على موقعها، لم تتردد في التضحية بجزء منها على حساب تماسكها الداخلي.
فانكسرت المؤسسة العسكرية وأجهزة الأمن، وأصبحت عُرضة لتدخلات داخلية وخارجية متعددة.

وأمام خطر الانهيار الشامل، تدخل الشعب الجزائري.
جاء الحراك، ومعه القوى الحية التي أطلقته، ليمنع الأسوأ، أي انهيار الدولة.
كانت لحظة شعبية فاضلة منحت أملاً هائلاً. وكان يفترض أن تعكس انتخابات 2019 هذا التحول عبر الأفعال.
لكن الوعود لم تُوفَ، وبقي النظام، رغم وهنه، صامدًا بغياب بديل قادر على صياغة عقد اجتماعي جديد.

وأضحت مرحلة ما بعد الحراك مجرد فترة تمديد لعقم سياسي، وصراع إضافي لنظام أصبح متجاوزًا، متخلفًا، مؤذيًا، لكنه لا يزال قادرًا على التكيف والصمود.

 

الصورة العامة للحصيلة باتت واضحة اليوم:

  • نزع الشرعية عن النظام السياسي،
  • تفكك المؤسسات السياسية (البرلمان، المجالس الولائية، البلدية) وعدم قدرتها على التأثير في المجتمع،
  • انكماش المؤسسة العسكرية وانعزالها، وعدم انخراطها في مستقبل الدولة السياسي،
  • تركيز مطلق للسلطات السياسية، التنفيذية، التشريعية، القضائية، الاقتصادية والإعلامية في يد مجموعة ضيقة حول رئيس الجمهورية،
  • قمع ممنهج لكل أشكال المعارضة في جميع القطاعات،
  • غلق تام للحياة السياسية والإعلامية،
  • تباطؤ أو خنق الحركية الاقتصادية،
  • تنازل خطير وغير دستوري عن الثروات المنجمية للبلاد، في طريقه إلى المصادقة عليه من طرف مجلس شعبي وطني خاضع للأوامر، مما يُقوّض السيادة الوطنية وتحيط أهدافه شبهات كبيرة على أقل تقدير،
  • تعميم الفساد،
  • عزلة دبلوماسية حادة وتراجع للمواقف الوطنية في القضايا الاستراتيجية،
  • تدهور الشراكات الدولية ووقوع البلاد في تحالفات غير متكافئة،
  • تموضع جيو-استراتيجي غير مفهوم،
  • فقدان عميق لثقة المواطن،
  • عزوف عن المواطنة،
  • انكماش وجداني وسياسي للشعب تجاه الوطن،
  • إحباط شامل يعم البلاد.

إن الوضع الحالي للبلاد يفرض بشكل واضح التوجه نحو تغيير جذري، وإعادة صياغة مؤسساتية توافقية وجوهرية، ورسم أفق وطني جديد.
بعبارة أخرى: الجزائر بحاجة ماسة إلى الجمهورية الثانية.

قابة

Recent Posts

الجزائر: لحظة الاختيار التكنولوجي – من باندونغ إلى الذكاء الاصطناعي، نهاية عدم الانحياز

الجزائر: لحظة الاختيار التكنولوجي – من باندونغ إلى الذكاء الاصطناعي، نهاية عدم الانحياز بقلم: سليم…

3 أسابيع ago

بيان: التنديد بالفساد يوصلك إلى السجن

بيان التنديد بالفساد يوصلك إلى السجن! يُعلم جيل جديد الرأي العام أن السيدة نهيمة عباد،…

4 أسابيع ago

أضعنا فرصة العولمة… فهل سننجح في استثمار مرحلة نهاية العولمة؟

شكرًا لك على قبول دعوتنا. أنتم رئيس الحزب السياسي الجزائري "جيل جديد"،  كما أنكم مؤلف…

1 شهر ago

تصعيد بين الجزائر وفرنسا : عمليات طرد وتوقيف

هل نحن على أعتاب تصعيد جديد بعد إعلان باريس عن قرار السلطات الجزائرية طرد 12…

شهرين ago

توتر العلاقات بين فرنسا والجزائر: تحليل الأسباب وآفاق المستقبل

بعد يومين فقط من الاتصال الهاتفي الذي جرى بين الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ونظيره…

3 أشهر ago

الطبقة السياسية الفرنسية تواجه مصيرها!

الطبقة السياسية الفرنسية تواجه مصيرها! تتكون الحكومة الفرنسية اليوم من الخاسرين في الانتخابات التشريعية الأخيرة،…

3 أشهر ago