القيّم الأساسية

مقدّمة 

تتميز جميع شعوب العالم بمجموعة من القيم والمعتقدات واضحة الملامح. مع أنها كلها تشترك في مرجعية إنسانية واحدة. فإذن كبشر، نحمل كلنا سجلا وراثيا متماثلا إلى حد بعيد، مع أن قدراتنا التعبيرية لا حدود لها. 

كل الثقافات الكبرى قامت عبر القرون بوضع الإنسان في وسطها. فالإنسان هو قبل كل شيء كائن اجتماعي. وتلبية لاحتياجاته الفطرية، أي البيولوجية، كان لزاما عليه أن يرهن مصيره ونشاطه الحيوي بمصير الجماعة. شيّد أمنه وأشبع احتياجاته الأساسية بالعمل (وذلك من جني الثمرات وصيد الحيوان في عهد الإنسان البدائي إلى أحدث النشاطات وأكثرها تطورا في العصر الحديث)، وأسس عائلة وتناسل ودافع عن مكاسبه وعن أقاربه… أي كل ما هو طبيعي في حياة الإنسان.

ليس باستطاعة أحد أن يعيش بوسائله الخاصة، ومكتفيا بذاته. وكلٌّ مجبر بأن يقيم علاقة متواصلة مع أفراد عائلته وجيرانه وأصدقائه وزملائه ومواطنيه… فإذن من الجوانب الأساسية في حياة الإنسان نجد التعامل والترابط الضروري بين الأفراد.              

من هذا التشابك للروابط الاجتماعية، يؤسس المجتمع. من البديهي أن المجتمع ككيان لم يخطط له العقل البشري، وإنما هو نتيجة طبيعية للبعد البيولوجي للإنسان. كل شيء تجسد في الضمنية. لا أحد انتظر منظرا في علم الاجتماع لينظم نفسه ويعيش في مجتمع. غير أن الإدراك بوجود هذا المجتمع دفع بالعقل البشري للاهتمام بالأمر.

لقد سنت المجتمعات المؤسسة في أزمنة مبكرة قواعد جماعية يلتزم بها الأفراد، بالحد من مجال عملهم الشخصي والمشاركة في الحفاظ على وحدة الجماعة وتماسكها، ويصل ذلك أحيانا إلى حد التضحية بالنفس (الحروب). وفي حالة وقوع تصرفات منافية للقواعد المتفق عليها، فإن الجماعة تفرض عقوبات (تصل حد الإعدام)، حماية لنفسها من انحرافات تضر بكيانها. 

في الخلاصة، نقول أن الجماعة أمر ضروري لبقاء الفرد. لأن المجموعة أقوى وأشدّ من الوحدة. يبقى أن توزيع الأدوار أمر ضروري كذلك. وبه يصبح الرجال والنساء أدوات تشارك كلها في السير الطبيعي للمجموع.  

عندما يكون المجتمع منظما تنظيما جيدا، يصبح فعالا ويضمن بالمقابل أمنا وهامش مناورة أكبر للأفراد. إلا أن لكل ذلك ثمنا. يقتضي من الأفراد مساهمة في حياة الجماعة والحد من أهوائهم. كل واحد ملزم بالتنازل بجزء من حريته للمجموعة. ولهذا تختلف المجتمعات في متطلباتها وتسلطها على أعضائها. ففي بعض الحالات القصوى، يمكن للمجتمع أن يفرض الانعدام التام للإرادة الفردية. لكن المجتمع، بقتل الفرد، يفقد هو نفسه حيويته. وهناك مجتمعات أكثر تحررا، تسهر على إشراك الفرد في عمليات صنع القرار. 

في جميع الحالات، يخضع الفرد للقواعد العامة مجبرا أو مهيأ لذلك. وفي جميع الحالات، يتم ذلك إما عن طريق التربية العامة أو تلقين الطفل فالبالغ أفكارا من دون أن يدرك بها متلقيها. فينشأ كل واحد في بيئة يحتسبها صورة طبيعية لسلوك “عادي”، مثلما نسمعه في حديث العامة. 

ويجدر بنا الانتباه إلى أن طبيعة “الثقافة” المتسلطة تفرز عادة سلط مطابقة لها. ففي الثقافة التي يطغى فيها المجتمع على الفرد، تكون للدول التي تقام فيها ميل شديد للتسلط، وأحيانا للاستبداد. وأما الثقافات المتحررة فهي أكثر نزوعا للفردانية، ودولها أكثر ديمقراطية. 

ينتج عن ذلك معادلة. بقدر ما تكون الدولة متسلطة، يتولد عند الفرد الذي يتحملها موقف رافض سلبي. وبالعكس، بقدر ما تكون الدولة ليبرالية، يحس الفرد بمسئولية ويكون لديه موقف إيجابي. ويتبين من ذلك أن طبيعة المعتقدات والمعايير السائدة في مجتمع ما تؤثر بشكل مباشر على أنماط التسيير السياسي. هي القيم النابعة من ثقافة تضمن لها توازنها ولونها وتميزها وفي الأخير قوتها التعبيرية العملية.

القيّم 

تعمل كل المجتمعات وفق قيم يشترك فيها جزئيا على الأقل الأفراد الذين يتكوّن منهم كل مجتمع ويساهمون في تكوين ثقافة مشتركة.   

وإن غياب قيم مشتركة، يتقاسمها أعضاء المجتمع الواحد أو الوطن الواحد، يعني الفوضى والعبثية والتفكك.                                 

في أي مسيرة تاريخية، يتفاعل الإنسان مع محيطه الاجتماعي وينتج سلّما للأفكار وفق التحديات التي ينتظر منه أن يرفعها. وفي بيئة معادية، يُنظر إلى قيمة “الشجاعة” كضرورة حيوية. وفي محيط هادئ، تفرض قيمة “المحافظة” نفسها تلقائيا.   

إذا اعتبرنا أن المجتمع “جسم” حي، له مميزاته وقابل للتكيف مع وسطه تبعا للتغيرات التاريخية، يجب أن نسلّم بفكرة عدم وجود “قيم” مطلقة، صالحة لكل زمان ولكل مكان.

بال بالعكس، إن القيمة التي تكون إيجابية في لحطة معينة قد تتحوّل في لحظة أخرى إلى عامل سلبي أو محبط أو قاتل. ففي زمن الحرب، يمكن للعدوانية والقدرة على الفتك بالآخر أن تتحوّل إلى أمر ضروري. باعتبار أن الخلاص هو في القضاء على العدو. أما في زمن السلم، تصبح غريزة الموت هذه (التناتوس) بالعكس من ذلك خطيرة على الإنسان وعلى المجتمع. 

الجزائر 

يشهد المجتمع الجزائري اليوم تقلبات عميقة لسلم قيّمه. إذ أن القيم الأكثر انتشارا في المجتمع لا تتلائم مع احتياجاته. ونحن نعرف أن الاختلال العام لمنبع القيم يأتي من كثرة سلم القيم المطبقة في المجتمع وتناقضها.

تطورت الجزائر في ثقافة ألفية ضاربة في القدم، وصنعتها جغرافيتها وعمقها التاريخي وقيمها الأنتربولوجية ومعتقداتها الدينية. واليوم، تحولت “رواسب” التقاليد، بسبب القيود المتشددة والبالية التي لا تزال تفرضها، إلى عقد نفسية تحيل دون أي تعديل للقيم العملية وتحدث فجوات وتناقضات بين رغبات المجتمع وإمكانية إشباعها المستحيلة.

لم تعد ثقافتنا التقليدية متكيّفة مع الواقع، في الوقت الذي تواجه حداثة ليست نتاج تطورها الطبيعي الداخلي، وصارت تفرض عليها قواعدها الغريبة عنها وتتسلل إليها رغما عنها، وتفكك أنسجتها وتبعدها عن مفهومها الأصلي. الإرهاب والعنف والعدوانية و”الحرقة” والانتحار والانهيار العصبي وكل الأمراض العصبية، تمثل الأوجه الظاهرة والمخيفة لمرض مجتمعي يحمله الفرد. “اللاتنمية” هي عرضها الجماعي. 

هذه الأزمة هي في الواقع تعبير عن اختلال في التوازن بين القيم العديدة التي تتميز بها ثقافة ما هي نفسها فقدت توازنها واهتزت ثقتها في كينونتها أمام واقع جديد وصارم لا يرحمها.

الدارس للمجتمع الجزائري المعاصر يكتشف اختلالا عميقا لمنظمومته القيمية. فهذه المنظومة التي تضررت كثيرا بالوجود الاستعماري الطويل والمحطم، اصطدمت بعد الاستقلال بسياسات شعبوية أصابت وأعاقت القيم العريقة، الأنثربولوجية، التي بقيت كرواسب لثقافة قديمة.                   

واليوم، سيبدو الشعب الجزائري وكأنه تائه بلا معالم ولا مراجع. ونراه ينحل مع تفتت الوحدة الوطنية وتفسخها. وإن العنف الذي تتم به التحولات الاجتماعية وصدام الحداثة غير المستوعبة، وصلا إلى درجة أن الجزائريين يبدون وكأنهم ليسوا أسياد مصيرهم.   

تكشف العلاقات الاجتماعية السائدة ونمط الحكم والتحول الذي يعرفه النموذج العائلي، عن استياء عميق وقلق متنامي وحالة عصابية بادية.     

وفوق كل هذا تعيش العائلة والمدرسة اللتان يكمن دورهما الأول في تلقين القيم وأساليب المعاملة، حالة من التفسخ والاضمحلال. لينتزع الشارع منهما المبادرة، وهو يشكل فضاء يطغى عليه العنف والخشونة والاستباحة والقبح.  

إن الثقافات الكبرى في العالم التي تنتج حضارات مزدهرة هي قبل شيء منظومات منسجمة وتملك قدرة كبيرة على التكيف ومرتبطة دوما بمصيرها.     

  

العناصر المكوّنة لمشروع مجتمع 

يقول المثل أن الحكم هو القدرة على التنبؤ. لكن التنبؤ بماذا؟ فلو كان الأمر يقتصر على التنبؤ بعدد السكنات التي يجب بناؤها وعدد مناصب الشغل التي يجب خلقها وعدد المصانع الواجب تشييدها أو حتى معدلات النمو والتضخم والاستدانة التي ينبغي تحقيقها، لكان من الممكن أن يسند لخبراء وعلماء وتحل المشكلة. لكن للأسف الواقع أكثر تعقيدا بكثير.

فقبل أن نعرف كيف تسير شئون أمة، لابد لهذه الأمة أن تعرف بالتحديد أي نوع من المجتمعات تريد. وهذا يستلزم درجة غالبية من الوعي الشعبي ونخبة مستنيرة، مخلصة لشعبها وعازمة على تحقيق غايتها. فمشروع المجتمع ليست مجرد تأملات فكرية أو تعبير عن رؤية مصنوعة من مواد مستوردة. ولا يوجد رجال ملهمون قادرون أن يقرروا لوحدهم اتجاه التاريخ. إن مشروع المجتمع الحقيقي يجب أن أن يكون تعبيرا عن قدرات ذاتية للأمة. ولكي يتجسد هذا المشروع، لابد من توفر الشروط النفسية والمعنوية، ولابد من هبة شعبية نابعة من عمق الوعي الجماعي، لتحمل ديناميكية حضارية. ومن واجب الطبقة السياسية الشريفة أن تساعد هذه الديناميكية العميقة على التحوّل إلى حقيقة واقعة ولا توهم نفسها بمثل عليا مصطنعة مقترنة بنموذج فكري يستجيب لرؤية جمالية غريبة عنها. 

تتوفر في الشعب الجزائري مجموعة من المؤهلات التي تمكنّه من تحقيق هذه الطفرة. إلا أن ثغرات كبيرة في جهازه الثقافي تعيقه في مرحلته الراهنة، ذلك أن المنظومة التربوية والعائلية أهملت بعض القيم الأساسية التي تنقصه لتنفيذ مثل هذا المشروع، إن لم نقل أنها دمرّت نهائيا بفعل سياسية تفتقر لبعد النظر.    

وعليه، فإنه الأولوية أن ندعم بعضا من القيم الأساسية الضرورية لتحقيق الوثبة الحضارية، إن كانت هذه القيم موجودة فعلا، ويجب أن نحييها إن كانت جزء من تراثنا الأنثربولوجي وأن نعيد  نشرها في المجتمع إن كانت مغيّبة بعد خمسين سنة من تعثر المجتمع.  

القيم التي يتبناها “جيل جديد”

يستجيب مفهوم القيم التي يتبناها “جيل جديد” لبعض الشروط الفكرية والبيداغوجية، والخاصة أيضا بالاتصال السياسي.  

فليس من مهمة “جيل جديد” أن يدرس مسأـلة القيم من زاوية أكاديمية بحتة. وبما أن هدفنا أساسا هدف سياسي، نستعرض هنا تعريفا لبعض القيم المحورية التي نراها أساسية لبناء مشروع مجتمعنا. على أن هذه القيم المحورية يمكن تحمل قيما أخرى، ليس كقيم ثانوية وإنما كقيم مؤسسة لتلك التي اخترناها كأساس لعملنا. فإذن لا توجد هنا تصنيف قياسي، وإنما تخطيط هيكلي، ومفهوم عملي مرتبط بمشروع مجتمعنا. ولتوضيح أكثر، نأخذ على سبيل المثال قيمة “المسؤولية” أو بوجه أدق “روح المسؤولية”. فهذه القيمة لا يمكن أن تكون فعالة في أي مجتمع من دون قيمة “الحرية”. ذلك أن لا يمكن لأحد أن يكون مسؤولا عن أفعاله إذا لم يكن حرا في اختياره.          

من جهة أخرى، الواجب البيداغوجي يفرض الحد من عدد القيم الجوهرية التي يتعين ترقيتها. وإلا ستذوّب في بحر من المفاهيم سيفقدها مغزاها وفعاليتها في الخطاب السياسي. إلى جانب ذلك، ينبغي اختيار القيم وفق منفعتها الذاتية التي تتحدد من خلال قابليتها العملية، وكذلك على انسجامها الجوهري مع العمق الأنثربولوجي في بعده الديني. فمن غير المستساغ أن تغذى أية قيمة غريبة عن الفضاء الإسلامي وتمنح نفس حظوظ النجاح. ومن هنا، فإن القيم الجوهرية المقترحة يجب أن تكون له تجذر شعبي ومنسجما مع البعد الروحي ومستجيبا للبعد الكوني ويصبح وعاء لديناميكية مجتمعية سعيدة.     

من هذا المنطلق، يتبنى “جيل جديد” شعارا ثلاثيا يبقى مفتوحا للإثراء: 

مسؤولية، عدالة، ابتكار 

 

المسؤولية

” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهتَدَيتم إِلَى الله مَرجِعُكُم جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُم تَعمَلونَ” (سورة المائدة، الآية 105) .

إن ممارسة الإنسان للمسؤولية تقتضي حتما ممارسة الحرية. لكن الحرية  من دون روح المسؤولية سرعان ما تتحول إلى مصدر فوضى في المجتمع. يقول المثل الشعبي: “تنتهي حرية المرء عندما تبدأ حرية الآخرين”. فأن نفعل المرء ما يحلو ل، قد يعني “الحرية”، لكنها لا تعني “المسؤولية”.

في المجتمع الجزائري، لا تحظى قيمة “المسؤولية” بأي اعتبار.

انتهجت الدولة منذ عام 1962 سياسة شعبوية تؤمّن العيش لكنها تشترط في المقابل الانصياع والسكوت. مطلوب من كل فرد أن يخضع للإرادة السياسية للسلطة القائمة. على أن تتولى هذه الأخيرة بتلبية حاجيات هذا الفرد التي تحددها نفس تلك السلطة. 

       

بارتكازها على ثقافة تضامنية تقليدية، ومتقوقعة حول نفسها، أضعفتها مواجهتها للعالم الحديث، أرادت السلطة السياسية الذهاب إلى أبعد مدى في نهجها، بقتل الفرد وخنق أدنى رغبة في الاحتجاج. ومن نتائج هذه السياسية، فقدان روح المسؤولية عند المواطن الجزائري. 

إن الكثير من الاختلالات في مجتمعنا تنبع من غياب هذه القيمة. 

وهذا الشيء نلمسه على كافة الأصعدة. فعلى مستوى المسؤولين، تنزل القرارات على المحكومين مثل السيوف على الرقاب، مع ما ينجر عن ذلك أحيانا من عواقب مأساوية، لكن ذلك لا يثر أدنى شعور بالذنب في نفوسهم. فهم لا يبشعرون بالمسؤولية عن العواقب الوخيمة لأفعالهم. حتى أعلى سلطات الجمهورية تسمح لنفسها بمخالفة القواعد الدستورية دون أدنى إحساس بالذنب ولا اكتراث بنتائج تصرفاتها على المواطنين. وزراء وولاة يتخذون قرارات بوقف مشاريع وتغيير قواعد، ما يسبب في إفلاس مؤسسات وإلقاء المئات بل الآلاف في البطالة، في حين أنه يمكن تفادي كلك ذلك بعملية تشاور بسيطة، ويقررون ذلا بلا أدنى حرج. دركيون ينصبون في وسط الطريق السيّار حواجز أمنية، مما يسبب في وقوع عدة حوادث طرق. لطكن هذا لا يزعجهم قط. موظف بسيط يجبرك على الذهاب والمجيء إلى مكتبه، في حين أنك قد تسكن على مسافة مئات الكيلومترات من المكان. لكن هو لا يكترث بتاتا بالمتاعب التي يسببها لك. 

  هذا السلوك لم يعد للأسف حكرا على ممثلي الدولة. بل حتى الناس البسطاء الذي هم في غالب الأحيان ضحايا تلك التعسفات، يتحولون هم بدورهم في كل مرة تتاح لهم الفرصة، إلى مصدر إزعاج ومضايقات للآخرين. الجار الذي يقوم بأشغال في بيته في منتصف الليل ويزعج كل الناس، السائق الذي يقود سيارته بطريقة جنونية، مما يعرض حياة الآخرين للخطر، الأولياء الذين يطلقون أبناءهم إلى الشوارع مع كل ما قد ينجر عن ذلك من أخطار… عنف، إهمال العائلة، انعدام الجدية في العمل، عدم الوفاء بالعهد.. وغيرها من المظاهر في حياتنا اليومية المليئة بالسلوكات السلبية التي لها مصدر وات واحد: هو عياب روح المسئولية عند المواطن الجزائري. 

لقد أصبح المواطن الجزائري عنصرا غير مسئولا، إلى درجة أنه لا يتحمل نتائج الأضرار التي يسببها لمحيطة. فمن دون روح المسؤولية، تعم الفوضى بصورة تدريجية ولكنها حتيمة. العائلات لم تعد تلقن هذه القيمة. وحال المدرسة أسوء منها. وأئمة المساجد غارقون في خطابات غير مفهومة. والعدالة تسلط عقوبات على الذين يعترفون (ومن ثم يتحملون) بآثامهم من تلك التي تصدرها في حق الذين ينكرون جرائمهم. ذلك أن اعتراف الإنسان بأفعاله أصبح وقاحة يجب معاقبتها. الإرهابيون يستفيدون من قانون التوبة لكنهم لا يتوبون قط..

إن بث روح المسؤولية في المجتمع أصبح ضرورة ملحة. ينبغي تكوين المواطن على تحمل مسؤولية خياراته وأفعاله. فالذي اختار إنجاب عشرة أولاد، لا يجوز له أن يلجأ بعد ذلك للمجتمع على علاجهم وتربيتهم وسكنهم وتشغيلهم، وأن يشكو في الوقت ذاته عدم اكتفائه.

لابد لكل واحد أن يفهم بأن القرارات التي يتخذها بكل حرية تترتب عنها نتائج، جيدة أو سيئة، عليه أن يتحملها. وعليه لا بد من إصلاح أنماط تسيير المجتمع برمته. ففي الاقتصاد، الإطار المسير الذي يدر أرباحا لمؤسسته بناء على معطيات موضوعية، يجب أن يشّجع ويرفع مرتبه ويرقّى، إلخ.. أما الذي يفشل في أداء مهامه، فيجب أن يُسرَّح..  

من يخطئ ويتحمل خطأه يجب أن يستفيد من الظروف المخففة. أمنا الذي يتنّصل من مسؤوليتاه ويلقيها على غيره، يجب أن يعاقب بشدة أكبر. من الضروري  أن يوضع كل واحد أمام نتائج سلوكه وخياراته. وهذا يفترض أساسا وجود: 

الحرية الفردية،

حرية الفكر 

وحرية الضمير 

هذه الحريات الثلاثة يجب أن تنص عليها القوانين الأساسية في البلد. لأنها بذلك تؤسس للديمقراطية كنظام لتسيير المجتمع.                        

يمكن للمجتمع أن يعبر عن هذه القيم بشكل أفضل، لاسيما وأن عمقنا الأنثربولوجي الأمازيغي جد متمسك بها. وعلى حاجتنا القديمة للحرية، يجب أن نربي أنفسنا على دمج المزيد من روح المسؤولية في ثقافتنا الشعبية.

ذلك أننا نريد أن نرتقي إلى مستوى أعلى من التنظيم لمجتمعنا، فمطلوب من الأفراد الذين يتكون منهم هذا المجتمع أن يتحلوا بمستوى تربوي لائق، أي بتربية توقظ الضمائر وتربي على السلوك الحسن. إن المدرسة الناجحة ليست هي المدرسة التي تلقن الكثير من المعرفة، ولكن هي التي تربي الطفل على القيم الرفيعة وتساعده على بناء مجتمع ديناميكي ومتماسك يعيش في وئام وتكافل. 

2) العدالة

” يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظلمَ عَلَى نَفسي وَجَعَلتهُ بَيْنَكم مُحَرّمًا فلا تَظالَمُوا” (حديث قدسي). 


إن العدالة هي واحدة من الدعائم الأساسية التي تقوم عليها إدارة المجتمع البشري.
والظلم، أو غياب العدالة، هو المصدر الرئيسي لسيادة الفوضى في المجتمع.

ما أن تقام علاقة بين شخصين، إلا ودخل مفهوم العدالة. فعلي أي أساس يتفاعل البشر بعضهم مع بعض؟ غرزية الإنسان تدفعه دائما إلى التركيز على مصالحه الذاتية، ورغباته.  إلا أنه لا يوجد معيار مطلق يسمح برسم حدود العلاقة العادلة. وذلك ينطبق على العلاقة بين الزوج والزوجة، وبين صاحب العمل والموظف، وبين الذي يملك السلطة والذي يجب أن يخضع لها. 

في المجتمع الذي تطغى فيه قيمة “المال، وتفرض المادية والنزعة الاستهلاكية نفسها كقيم أساسية في سلم القيم التي حددها العالم الحديث، غالبا ما ينقاد الأفراد وراء العلاقات المصلحية التي تحكمها موازين القوة. في حين أن القوة يجب أن تكون استمرارية للعدالة، ووسيلتها الأخيرة لفرضها على من يخالف القانون. لا يجب للقوة في أي حال من الأحوال أن تؤسس للعلاقات، لأنها فهذه الحالة ستصبح أداة للعنصرية والتمييز على أساس الجنس والتعصب وأداة لبعض الأيديولوجيات الشمولية. هذه المبادئ هي أساس سيادة القانون.

في الجزائر، إن المؤسسة التي يفترض أنها تدافع عن هذه الفضيلة هي نفسها موضع الجدل، ويعتبر الكثير من المواطنين أنها في خدمة القوي بدلا من أن تدافع عن القانون.

إنه بغض النظر عن المشاكل القانونية والمؤسساتية والسياسية، لابد لنا أن نتساءل عن مدة استيعاب المجتمع نفسه لقيمة “العدالة”. لأن جوهر المشكلة هو في أن نعرف كيف ينظر المجتمع إلى هذه القيمة وكيف تسمح بوضع قوانين وقواعد الكفيلة بتنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

يمكننا أن نأخذ مثال العلاقة بين الرجل والمرأة. فبالنسبة للبعض، يجب تطبيق القواعد التقليدية التي تلزم المرأة بأن تكون في خدمة البيت والأولاد، وبالتالي لا توجد هناك مساواة تامة بين الزوجين، على أساس أن زوجة تخضع لإرادة رب الأسرة. فيما يرى آخرون العكس من ذلك، أن لا شيء يبرر وجود فرق، وأن الرجل والمرأة متساويان تماما.

هذه النظرة المتناقضة للعلاقة بين الرجل والمرأة، تخلق فهما متناقضا للعدالة في الفصل في النزاعات الزوجية وعلى نطاق أوسع في الصراعات الموجودة في المجتمع. ويمكن توسيع هذه النظرة المتناقضة لحالات كثيرة جدا: العلاقة بين السلطة والمواطنين، العلاقة بين الإدارة والمحكومين، وبين الثقافة المهيمنة وثقافة الأقلية، وما إلى ذلك …

ولهذا فمن الضروري لأي أمة أن تقيم عدالة مؤسساتية مستقلة، ونزيهة، ومنصفة. ولكن من الضروري أيضا ضمان انسجام المبادئ الأساسية التي تقوم عليها نظرة المواطنين لما يجب أن تكون عليه العدالة. وهذا بطبيعة الخال يتعلق بالبعد الثقافي.


إننا في “جيل جديد”، ندافع عن العدالة التي تندرج ضمن المبادئ التالية:


القانون والعدالة أساس وقوام المساواة بين الأشخاص،

المساواة في التنوع


المساواة بين الجميع أمام القانون،


المساواة بين الرجال والنساء،

من خلال استيعاب هذه القيم من سن الطفولة، وكذلك بفضل المدرسة وكل البيئة الفكرية والثقافية والعقائدية والفنية والسياسة، سيتمكن الجزائريون من توثيق العلاقات فيما بينهم ومن بناء دولة القانون.

3) روح الابتكار

“وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّما يُجَاهد لِنَفسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عنِ الْعَالَمين” (سورة العنكبوت، الآية 6). 

الحياة حركة وتغيّر وتطوّر. ومن الخصائص الأساسية للحياة قدرتها على التكيّف. والتكيّف، يعني اختراع طرق جديدة لحفظ البقاء أو لتحقيق حياة أفضل.


إن حيوية الجنس البشري وقدرته على مواجهة تحديات الطبيعة، وعبقريته في بناء الحضارات على مر التاريخ، تدعمه قدرته على الابتكار والإبداع وبطبيعة الحال أيضا للجهد البدني والفكري.

في عالم اليوم، إن الشعوب الأكثر قدرة على الابتكار تملك التكنولوجيا وتفرض نفسها في مسرح الأمم. أما الشعوب المحافظة، والجامدة، العاجزة عن الخيال، هي دائما في مؤخرة  الترتيب العالمي، بعيدة عن الاكتشافان وعن التطور.


كقيمة جوهرية، تتحّد روح الابتكار مع قيم أساسية أخرى وتسمح للأمة بالتحكم في مصيرها. أما الأمة الخاملة، العاجزة عن ترجمة خيالها في الإنتاج الصناعي والثقافي والاجتماعي،  فمآلها الجمود والسقوط. وبالرغم من أن الاستعمار لم يعد أمرا ممكنا، إلا أن فقدان السيطرة على المصير قد يتخذ أشكالا حقيقية وأخطر.   

ولتطوير قدرته على الابتكار، ينبغي على الشعب أن يزرع قيما متعلقة بها:

الثقة بالنفس،

بذل الجهد،

حب العمل المتقن،

الصبر والمثابرة في بذل الجهد،

ينبغي على البلد أن يشجع المبدعين، وأن يزيل العراقيل البيروقراطية، وأن يستعيد الثقة بالنفس، والمضي قدما. لا بد له من أن يكون على استعداد لمواجهة التحديات الحقيقية التي تنتظرنا كجزائريين ولكن أيضا كبشر، لأن جيلنا سيواجه التغيير الحضاري الذي يعني البشرية قاطبة. الإنسان الواعي عليه بالعمل واتخاذ المبادرات.

الخاتمة 


إن القيم الجوهرية الثلاث التي نقترحها هنا، وهي الشعور بالمسؤولية والعدالة وروح الابتكار، بالإضافة إلى كل القيم المرتبطة بها، تشكّل القيم الأساسية التي نعتمدها لإعداد مشروع مجتمع “جيل الجديد”.


ونريده مشروع مجتمع قابل للحياة، معقولا، ونابعا من الثقافة الوطنية ويفسح المجال في الوقت ذاته لتغيير عميق في ذهنيات وفي سلوك جيل الشباب الجزائريين الذين سيدعون  لتكوين نخبة البلد.


المسؤولية والعدالة والابتكار، هي أساس التزامنا:


“واجب المبادرة”


من أجل بناء


دولة القانون والديمقراطية.