الانتقال نحو عالم متعدد الأقطاب يعيد خلط جميع الأوراق

الانتقال نحو عالم متعدد الأقطاب يعيد خلط جميع الأوراق

Temps de lecture : 5 minutes

رئيس حزب جيل جديد، سفيان جيلالي، يعود في هذا الحوار إلى الانتخابات الرئاسية المرتقبة نهاية السنة، كما يقدم تحليله للوضع الاقتصادي في البلاد، الذي يتسم بإعادة التوازنات الكبرى على المستوى الكلي. وبينما يعبر عن قلقه من تدهور الوضع السياسي والدبلوماسي في منطقة الساحل، يؤكد رئيس جيل جديد على ضرورة أن تحدد الجزائر بدقة خياراتها في عالم يعرف تحولات جيوسياسية سريعة وإعادة تشكيل للتحالفات.

نحن على بعد أقل من عشرة أشهر من الرئاسيات. بعض الأحزاب أعلنت بالفعل نواياها بشأن هذا الموعد الانتخابي. هل سيكون حزب جيل جديد حاضراً؟ وهل تنوون الترشح لهذه الانتخابات؟

لا يمكن لأي حزب سياسي يحترم نفسه أن يتغافل عن موعد مهم كالانتخابات الرئاسية. بعيدًا عن شخصيات المترشحين، يجب أن تكون هذه المناسبة لحظة تأمل ذاتي لمستقبل الجزائر. نحن في لحظة مفصلية. نظامنا السياسي منهك ويجب تجديده بشكل ضروري.

لقد أنقذ الحراك سنة 2019 البلاد من انهيار حتمي، لكن للأسف أشعر بأن الطاقة المواطنة التي احتواها لم تُستثمر كما يجب. ولا يمكن إلقاء اللوم على السلطة وحدها، فالمعارضة تتحمل مسؤولية كبيرة. العدميّة و”الشيغيفارية” تركتا أثرًا سلبيًا.

ومع ذلك، وعلى الرغم من جهود السلطات، لا يزال هناك شرخ بين الحاكمين والمحكومين. لا أعلم إن كان سبب ذلك هو الجمود الكبير للنظام، أو العقلية المحافظة، أو العادات المرتبطة بمنطقة الراحة النفسية، لكن التغييرات التي تم تنفيذها لم تمسّ هيكل النظام السياسي.

الجزائر بحاجة إلى نفس جديد. بعد الحراك، كانت هناك طاقة هائلة، طموحات مشروعة، وأحلام. شيئًا فشيئًا، بدأت هذه الحركية تتلاشى، والإرادات الحسنة تم تثبيطها، والسلوكيات القديمة عادت إلى الواجهة.

الإمكانات الوطنية في حالة ركود. العقول المبدعة أصبحت مظلمة بفعل الإحباط، وأصبحت مطالبة إما بالامتثال للنمط السائد أو الهجرة. والنتيجة هي أن التنمية تتعرض للشلل.

لست أتهم أحدًا بعينه، إنها مجرد ملاحظة. هناك خوف دائم من التغيير، يمنع أي جرأة في الفعل السياسي. الحكومة مكونة تقريبًا من تقنوقراط لم يتلقوا تكوينًا سياسيًا. الأحزاب السياسية مهمشة وتُنظر إليها كمصدر محتمل للفوضى.

المجتمع المدني، التابع والمُصطنع، هش جدًا. وسائل الإعلام مُكبّلة وتم تحييدها إلى حد كبير. من المسؤول عن هذه الوضعية؟ لقد تم تصميم النظام السياسي لدينا منذ البداية بهدف حماية نفسه. ويمكن فهم ذلك تاريخيًا.

لكن، بعد أكثر من 60 سنة من الاستقلال، ينبغي التفكير في نظام جديد، يوفر الأمان والاستقرار، لكنه في نفس الوقت يدمج طاقات جديدة وأفكارًا حديثة. كما تعلمون، البُنى الصلبة جدًا تنكسر في النهاية.

نحن بحاجة إلى مزيد من المرونة، أي إلى مزيد من الحرية. ابن خلدون حدد عمر الدول في ثلاث أجيال، أي حوالي 60 عامًا. وقد بلغنا هذه المرحلة!

الانتقال من نظام إلى آخر لن يكون سهلاً. ولن يحدث لأن فلانًا أو علانًا يترشح لرئاسة الجمهورية. نحن بحاجة إلى وعي جماعي بحدود الوضع الحالي من أجل توسيع الأفق السياسي.

كنت أنتظر خلال هذا العهد أن يُفتح نقاش حقيقي مع كل من لديه ما يقوله. وقد طالبت بذلك عدة مرات، لكن دون جدوى. لا يزال أمامنا بعض الأشهر قبل أن تُحدد قائمة المترشحين. انفتاح حقيقي في الفضاء الإعلامي يمكن أن يعيد ثقة الجزائريين.

لمَ لا نصل إلى مرشح توافقي على أساس إصلاحات عميقة ومتفاوض عليها؟ لا يهم من يتحمل المسؤولية أمام الشعب، سواء كان الرئيس الحالي أو شخصًا آخر. لكن، إذا أعادت الآلة السياسية الإدارية تكرار نفس الخطاب، فستفقد الرئاسيات معناها.

وفي النهاية، وللإجابة بشكل مباشر عن سؤالكم بشأن ترشحي المحتمل، يمكنني القول إنه لم يُحسم بعد. حزب جيل جديد سيكون منخرطًا في العملية، ولكن على أي مستوى؟ لا أملك بعد إجابة واضحة.

هذا القرار لا يرتبط بطموح شخصي أو بحسابات سياسية. بل هو مرهون ببيئة سياسية لم تتضح معالمها بعد. أستطيع فقط أن أقول، دون أي ادعاء، أنني أحمل مشروع مجتمع وبرنامجًا سياسيًا حديثًا مع فريق كفء قادر على وضع أسس إقلاع حقيقي، بشريًا واقتصاديًا.

الرئيس تبون ألقى في ديسمبر 2023 خطابًا حول حالة الأمة أمام غرفتي البرلمان، وتطرق فيه إلى مختلف الإنجازات. وقد علّقتم على الحدث بالقول إن هناك تحولًا جوهريًا في إدارة مصالح البلاد من الناحية الأخلاقية. هل يمكنكم توضيح ذلك؟

نعم، هذا الخطاب كان مناسبة للعديد من الصحفيين لاستطلاع رأي السياسيين، بعد صمت طويل. في الواقع، قلت حينها إن دعوة البرلمان ليست جديدة
بحد ذاتها، لكن أن يقدّم رئيس الجمهورية حصيلة علنية أمام الأمة، فهو فعل أخلاقي.

عندما نعلم أن الرئيس السابق لم تطأ قدماه يومًا ما يُفترض أنه مؤسسة ديمقراطية تمثل الشعب، فذلك يُعتبر تطورًا ملحوظًا. تعليقنا كان على الفعل السياسي الدستوري، وليس على الحصيلة ذاتها، والتي تستحق تحليلاً أعمق.

خلال آخر اجتماع للمجلس السياسي لحزبكم، أشرتم إلى إعادة التوازنات الكبرى على المستوى الاقتصادي، ودعوتم إلى “الانخراط في استراتيجية تنموية حقيقية”. ما هي هذه الاستراتيجية؟

البيان الذي أصدره المجلس السياسي تضمن 10 نقاط حول المستجدات، بعضها تناول الشأن الاقتصادي. لوحظ وجود مؤشرات إيجابية مثل الفائض في الميزان التجاري، غياب الديون العمومية تقريبًا، نمو الناتج الداخلي الخام، وتوجيه الخيارات نحو الإنتاج.

وقد نشر مجلسنا العلمي جملة من الإحصائيات على شكل جداول تغطي النصف الثاني من 2023، وذكرت صحيفتكم بعضها مشكورة.

لكننا في نفس البيان أشرنا إلى مكامن الضعف في اقتصادنا. في الحقيقة، الجزائر تدور في حلقة مفرغة، ولا تنجح في خلق ديناميكية تنموية حقيقية. العوائق متعددة، لكن العامل الإيديولوجي أصبح بارزًا.

أشعر أن صناع القرار الاقتصادي لا يمتلكون رؤية واضحة. فهم ممزقون بين سياسات إعادة توزيع الريع باسم العدالة الاجتماعية، والحاجة إلى انفتاح السوق أمام الفاعلين الاقتصاديين. البيروقراطية أصبحت أكثر تعقيدًا.

إنها تخلق عراقيل تضر بالمؤسسات، ناهيك عن ميلها المتأصل اليوم نحو الفساد. تدخل العدالة بعقوبات صارمة في قضايا اقتصادية يُعدّ إشارة سلبية جدًا. وغالبًا ما يتضرر الفاعلون الصغار، بينما ينجو من يديرون أموالًا عامة ضخمة.

لا يمكن إدارة اقتصاد بولاة ومحامين عامين فقط. على الدولة أن تركز على الخطوط العريضة. هذا النهج يُخيف المستثمرين، مما يدفعهم إما إلى الادخار المفرط أو تهريب الأموال للخارج.

هذا استنزاف للعملة الوطنية ويغذي التضخم. التحديات واضحة: ماذا نفعل بالمؤسسات العمومية؟ كيف نستغل رأس المال المتاح؟ كيف ندمج الاقتصاد الموازي في الاقتصاد الرسمي؟ كيف نحدث ثورة في النظام البنكي؟ كيف نجذب الاستثمارات الأجنبية دون المساس بالسيادة؟

علينا التوقف عن الانشغال بالتفاصيل الصغيرة كي نتمكن من صياغة سياسات كبيرة.

الجزائر يجب أن تطمح لنمو بنسبة 8 إلى 10%. لننظر إلى الصين، ماليزيا، الهند، وغيرها. يمكننا الوصول إلى ناتج محلي إجمالي يبلغ 500 مليار دولار. مواردنا من المحروقات يجب استغلالها بعقلانية. ويجب الخروج من منطق الريع.

ولتحقيق ذلك، يجب حشد النخب، واعتماد معايير الجدارة، ومراجعة الإنفاق العام، والتركيز على الجودة بدل الكم، في كل القطاعات. على الحكومة أن تمارس تواصلاً تربويًا فعّالاً. وللأسف، لم نر شيئًا من هذا.

عبرتم عن قلقكم من تدهور الأوضاع في منطقة الساحل. هل هناك تهديدات حقيقية للجزائر؟

شمال إفريقيا بأكمله غير مستقر اليوم. منطقة الساحل، من السودان إلى مالي مرورًا بتشاد والنيجر وصولًا إلى بوركينا فاسو، تعيش على فوهة بركان.

مساحات شاسعة، شعوب مختلفة، نزاعات عرقية، دول هشة، واقتصادات غير قادرة على تلبية الحاجات الأساسية رغم الثروات الهائلة. أضف إلى ذلك تدخل القوى الأجنبية بأشكال متعددة.

دول مثل مالي والنيجر، وربما لاحقًا موريتانيا، يمكن أن تنقلب في أي لحظة. ليس لديها طبقة سياسية مستقرة ولا نخب دائمة. انظروا كيف انقلبت مالي ضد الجزائر، رغم عقود من الثقة والمساعدة المتبادلة.

الحروب بالوكالة على أبوابنا مقلقة. الناتو تدخل بفظاظة في ليبيا. تونس تمر بفترة حرجة. الصحراء الغربية أصبحت مصدر توتر دائم. وإذا ما دخل جيراننا الجنوبيون في شراكات مع دول تستهدف الجزائر، فالوضع يصبح خطيرًا.

كيف نؤمن آلاف الكيلومترات من الحدود في مناطق عدائية؟ الساحل مليء بالاتجار غير المشروع: السلاح، المخدرات، الجماعات المسلحة… كل هذه الآفات تهدد أمننا القومي. ولحسن الحظ، جيشنا يقوم بدوره. لكن علينا دعمه في مهمته.

في عالم يشهد تحولات جيوسياسية سريعة، تعتبرون أن على الجزائر تحديد خياراتها بدقة. ما هي هذه الخيارات؟

الجزائر تُمثّل عمقًا استراتيجيًا لأوروبا، خصوصًا الجنوب، وبوابة نحو إفريقيا، القارة التي أصبحت محطّ أطماع. موقعها الجغرافي يُحتم عليها دورًا طبيعيًا، إضافة إلى مساهمتها الهامة في سوق الغاز.

من جهة أخرى، مواقفها السياسية تجعلها مختلفة في محيطها. تطمح لأن تكون قطبًا إقليميًا، وتدافع عن مصالحها الاستراتيجية وسيادتها. لذلك، يجب أن توازن طموحاتها حتى لا تجلب على نفسها توترات مفرطة.

مستقبلنا مرتبط بالتحولات العالمية التي علينا استباقها. الانتقال من عالم أحادي القطب إلى متعدد الأقطاب يعيد خلط الأوراق.

انظروا حولنا: العالم العربي مفكك، الاتحاد الأوروبي في حالة شك، الولايات المتحدة تواجه عملية “نزع الدولار” وديونًا هائلة، وتمر بتمرد عالمي على هيمنتها.

روسيا تخوض نوعًا من الحرب الأهلية مع أوكرانيا، والصين تترقب فرصة مع تايوان. في هذا السياق، يجب علينا كجزائريين اتخاذ خيارات استراتيجية.

كيف نُوفق بين علاقاتنا الضرورية مع الغرب من جهة، والعالم الجنوبي الصاعد من جهة أخرى؟ أين سيكون تموضعنا في العالم الجديد المتعدد الأقطاب؟ وكيف سنحقق ذلك؟ هذه هي الأسئلة الجوهرية التي نحاول إيجاد أجوبة لها.

حوار أجراه: مقراني آيت وعرابي