Temps de lecture : 3 minutes اقتصاد السوق في مقابل الاقتصاد المُدار
في الجزائر، لم يعد التعايش بين سوق رسمي للعملات الأجنبية، تشرف عليه بنك الجزائر، وسوق موازية غير رسمية، مجرد ظاهرة هامشية، بل أضحى الإطار الفعلي الذي تتكوّن داخله أسعار الصرف. هذه الازدواجية ليست عَرَضاً عابراً، بل نتيجة مباشرة لسياسة نقدية متذبذبة، تفتقر إلى المصداقية والاستقرار، وإلى نظام صارم لمراقبة الصرف، خلق عملياً شروط نشوء السوق الموازية وهيمنتها. وقد بات هذا السوق يؤثر في التوقعات الاقتصادية والأسعار الداخلية تأثيراً يفوق بكثير سعر الصرف البنكي. وهكذا، تآكلت الثقة في العملة الوطنية.
إلى ماذا ترمز “الساحة”؟
في ساحة بورسعيد بالجزائر العاصمة، يمكن للمرء أن يلاحظ، يومياً وفي مختلف الأزقة المجاورة، حركة دؤوبة لبائعي ومشتري العملات الأجنبية. تُنجَز المبادلات في كل لحظة، وبأحجام معتبرة، وفق سعر يومي تحدده آليات العرض والطلب، في إطار غير رسمي بالكامل. بل إن مواقع إلكترونية متخصصة تنشر هذه الأسعار بشكل يومي. أليست هذه، في جوهرها، سمات سوق حرة مكتملة الأركان؟
على مقربة من ذلك، وفي شارع فرانكلين روزفلت بسيدي امحمد، يوجد مقر بنك الجزائر. ومن بين مهامه الأساسية ضمان الاستقرار النقدي وتنظيم سوق الصرف. ورغم ما تبذله المؤسسة من جهود وما تُظهره من إرادة، فإن الفجوة بين سعر الصرف الرسمي والسعر الموازي تشهد، منذ سنة 2021، اتساعاً غير مسبوق. هذه الفجوة، التي ظهرت منذ مطلع التسعينيات عقب الأزمات الاقتصادية التي عرفتها البلاد في الثمانينيات، تعمّقت لاحقاً بصورة بنيوية، وتفاقمت مع كل صدمة اقتصادية، غالباً ما تعود إلى العامل نفسه: ريع المحروقات.
يصعب الجزم أيّ السعرين يعكس الواقع النقدي والاقتصادي للبلاد بدقة أكبر، غير أن سلوك بنك الجزائر ذاته يقدّم مؤشرات بالغة الدلالة. فمراجعات السعر الرسمي تتجه، في الغالب، نحو التخفيض التدريجي لقيمة الدينار أمام العملات الأجنبية الرئيسية، كما أن تشديد الرقابة الإدارية على عمليات الصرف يعكس توقعات مقلقة بشأن المستقبل النقدي.
أما الإجراءات التي يُعلن عنها من حين لآخر لمعالجة هذه الظاهرة، فهي في معظمها ظرفية، وتعالج أعراضاً موضعية لا جذور الأزمة. فالمشكلة أعمق من مجرد اختلال نقدي عابر؛ إنها تمسّ البنية الأساسية للاقتصاد الوطني. والأزمة النقدية الراهنة ليست سوى نتيجة ضمن حلقة من الاعتماديات البنيوية التي طالما وُصفت وانتُقدت، بما في ذلك من قِبل السلطات نفسها.
اعتماد مفرط على المحروقات
تعتمد الجزائر في نحو 90٪ من مواردها من العملة الصعبة على صادرات النفط والغاز. وأي تراجع في الأسعار العالمية، مقترناً بانخفاض الصادرات، يؤدي مباشرة إلى تقلص المعروض من العملات الأجنبية وإلى إضعاف الدينار. وقد أثبتت دراسات اقتصادية قياسية وجود علاقة مباشرة بين أسعار النفط وقيمة الدينار، حيث يؤدي هبوط الأسعار إلى تدهور العملة، غالباً بوتيرة غير متكافئة ومضخّمة.
ضعف التنويع الاقتصادي
خارج قطاع المحروقات، تبقى الصادرات الجزائرية محدودة للغاية (نحو 7 مليارات دولار في 2024)، في حين تستمر واردات السلع الاستهلاكية والمواد الأولية في الارتفاع بفعل النمو الديمغرافي، ما يفرض ضغطاً دائماً على احتياطيات النقد الأجنبي. أما القطاع الصناعي، الذي لا تتجاوز مساهمته 4٪ من الناتج المحلي الإجمالي، فيظل عاجزاً عن لعب دور صمام أمان في مواجهة الصدمات الخارجية.
تآكل الاحتياطيات وعجز الميزانية
أدى تراجع الإيرادات النفطية، مقروناً بارتفاع الإنفاق العمومي (عجز متوقع في حدود 20٪ من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2025)، إلى استنزاف احتياطيات الصرف. ولمواجهة هذه العجوزات، تلجأ الدولة في الغالب إلى التمويل النقدي، وهو ما يغذي التضخم ويقود إلى مزيد من تدهور قيمة الدينار.
سياسة صرف جامدة وفجوة سعرية بنيوية
يحافظ بنك الجزائر على سعر صرف رسمي لا يعكس التطورات الحقيقية للأسس الاقتصادية، وغالباً ما يكون أعلى من السعر الذي تفرضه السوق الفعلية، ما يؤدي إلى فجوة هيكلية تُقدَّر بنحو 80٪ مع السوق الموازية. هذه الصلابة تضعف الثقة وتغذي توقعات التخفيض المستمر.
توسّع السوق الموازية بفعل الإحلال
في ظل محدودية الوصول إلى العملات الرسمية، يتجه الأفراد والمؤسسات إلى السوق غير الرسمية لتلبية حاجاتهم، ما يزيد الضغط على الدينار. وتفاقم هذه الظاهرةَ الطلبُ الكبير المرتبط بالاستيراد والسفر (السيارات، السياحة، الحج، العلاج، والادخار)، وهو ما يعمّق ندرة العملة الصعبة.
التضخم والخلق النقدي
إن التوسع في الكتلة النقدية دون نمو موازٍ في الإنتاج الحقيقي للسلع والخدمات يؤدي إلى تضخم مستمر. وهذا التضخم يُضعف القيمة الداخلية للدينار ويقلّص جاذبيته الخارجية.
تراجع المصداقية وتدهور التوقعات
أدّت التقلبات الحادة بين السوق الرسمية والموازية، إلى جانب الإجراءات الإدارية المفاجئة، إلى إضعاف ثقة الفاعلين الاقتصاديين، وتشجيع سلوكيات المضاربة تحسباً لتخفيضات مستقبلية.
إن تدهور الدينار الجزائري ظاهرة بنيوية ناتجة عن تداخل عدة عوامل: الاعتماد المفرط على المحروقات، ضعف التنويع، سياسة نقدية توسعية، نظام صرف جامد، وهيمنة السوق الموازية.
ومن ثم، لا يمكن أن تكون الحلول إلا بنيوية وعميقة:
•تحييد آثار الريع النفطي عبر تحويل صندوق ضبط الإيرادات إلى صندوق سيادي حقيقي يمنح العملة الوطنية المصداقية والوزن الدوليين.
•إطلاق مسار جاد لتنويع الاقتصاد، قائم على تشخيص موضوعي لنقاط القوة والضعف، وعلى اندماج فعلي في الفضاءين الإقليمي (غرب المتوسط) والعالمي، ضمن رؤية استراتيجية طويلة الأمد.
•اعتماد سياسة نقدية شفافة تعكس الواقع الاقتصادي بدقة، فتصحيح سعر الصرف إشارة إصلاحية ضرورية، وأي محاولة لتزييف الواقع النقدي محكوم عليها بالفشل، لأن سعر الصرف ليس سوى مقياس حرارة للاقتصاد.
•انتهاج سياسة مالية أكثر عقلانية، عبر إصلاح تدريجي لمنظومة الدعم، بما يوجّه الموارد نحو الاستثمار المنتج ويعزز الوعي الاستهلاكي.
ولا يمكن إنجاز هذه الإصلاحات بشكل مجزأ أو متتابع، بل في إطار رؤية شاملة تستند إلى حوكمة شفافة وديمقراطية. فبدون انخراط جميع الفاعلين، ستظل الثقة غائبة، وستبقى الإصلاحات حبيسة الخطاب.
إن الثقة هي الركيزة الأساسية لعملة مستقرة واقتصاد متين. لكنها لا تُفرض بالقوانين ولا تُبنى بالعقوبات، بل تُزرَع وتُصان.
مولود إيزم
رئيس لجنة الاقتصاد -جيل جديد-