غير مصنف

اضطراب في الجمهورية

Temps de lecture : 5 minutes

التكوُّن التطوري للنظام السياسي الجزائري

 بقلم: سفيان جيلالي

“الفكر العقيم يؤدي إلى فعلٍ أعمى.” – الدكتور العجمي

في مساهمة سابقة بعنوان “نهاية مرحلة”، حاولت التعبير بالكلمات عن قناعة مواطنينا بأن هناك شيئاً لم يعد على ما يرام في البلاد. سواء كانوا معارضين أو مؤيدين للسلطة، فإن الجميع يشعر بوجود اضطراب عميق في الجمهورية ويدركون أن المسألة لا تتعلق فقط بالقيادات الحاكمة، بل إن النظام السياسي ذاته، الذي أُقيم منذ عام 1962، قد بلغ حدوده وأصبح اليوم غير صالح.

المرافعة من أجل “جمهورية ثانية” ليست جديدة في الجزائر، لكن الفكرة قد نضجت الآن. صحيح أن هذا المفهوم يشير إلى تجربة تاريخية عاشتها العديد من الدول. فإقامة جمهورية جديدة يعني حدوث تغييرات جذرية في الهياكل التنظيمية وكذلك في النخب الحاكمة. وقد شهدت أوروبا هذا التحول عدة مرات بالتزامن مع تحديث دولها. بل إن تاريخ المغرب العربي عرف هو الآخر تعاقباً لسلالات حاكمة، وفق ديناميكيات سلطوية وصفها ببراعة ابن خلدون في القرن الرابع عشر.

في الجزائر، اتخذت عملية إعادة بناء الدولة، التي دُمرت جراء 132 سنة من الاحتلال الفرنسي، شكل جمهورية استمدت شرعيتها وتنظيمها وعقيدتها من الحركة الوطنية التحريرية. ومع ذلك، وبعد 63 سنة من الاستقلال، يسود شعور عام بأن السلطة الجزائرية بقيت على حالها، مجمدة في تكوينها الأصلي.

كل شيء يتحرك كي لا يتغير شيء

رغم ذلك، لم تكن الساحة السياسية جامدة. فمنذ الاستقلال، تعاقب على رئاسة الدولة عشرة رؤساء، من بينهم ستة رؤساء جمهورية وأربعة رؤساء دولة خلال فترات انتقالية. وقد شهد الجيش أيضاً تداولاً على القيادة بين العديد من المسؤولين. أما الحكومات المتعاقبة، فلم يعد الجزائريون يتعرفون على وجوه وزرائها ولا يتذكرون أسماءهم لكثرتهم وغياب تأثيرهم.

علاوة على ذلك، شكل كل رئيس جمهورية فرقته الخاصة، واضعاً نمطاً وسياسة خاصة به. لكن، بالنسبة للمراقبين، يتكرر نفس الانطباع: كل شيء يتغير كي لا يتغير شيء. فرغم اختلاف الوجوه والسياسات، يبقى هناك طابع دائم من حيث البنية والسلوك والخطاب، مما يبرز وجود “نظام” يعلو فوق الأشخاص.

فمن بن بلة المتحمس، إلى بومدين الصارم، ثم الشاذلي المصلح، فزروال الوطني، فبوتفليقة الليبرالي، وأخيراً تبون الإداري، تختلف الأساليب والاختيارات والمشاريع، لكن روح وهيكل الدولة لم تتغير.

في النهاية، يتغير الأشخاص، لكن “النظام” يبقى. فما هو هذا النظام؟ كيف نحدده؟ كيف نشخص نقاط قوته وضعفه؟ وكيف يمكن إصلاحه؟

نظام سياسي مقاوم

لقد أُنشئ النظام السياسي سنة 1962 كنتيجة لإرادة شعبية للتخلص من هيمنة استعمارية طويلة. وقد شُيد هذا النظام في خضم الكفاح التحرري، وكان هدفه استعادة السيادة الوطنية وبناء دولة اجتماعية حديثة كرد فعل على الاستعمار والتخلف والظلم. كان من الضروري أن يضمن هذا النظام استقلال الجزائر، مع فرض السيطرة على الشعب للحفاظ على الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي.

في عام 1962، وحدهم الذين حاربوا الاستعمار وعرّضوا حياتهم للخطر كانوا مؤهلين لقيادة البلاد سياسياً. وقد كانت رؤيتهم للعالم مشبعة بالفعل الثوري. آنذاك، كانت الأغلبية الساحقة من الشعب أميّة، وانهيار البنية الإدارية الاستعمارية أدى إلى فراغ في الخبرات، ولم تكن هناك نخب محلية قادرة على تسيير الدولة. ومن ثم، كانت الشرعية الثورية (ثم التاريخية) هي البديل الوحيد عن الشرعية الشعبية التي كانت مستحيلة بسبب غياب شروط الديمقراطية.

رغم الخلافات الإيديولوجية والسياسية داخل الحركة الوطنية، كان لا بد من التصدي سريعاً للتحديات الكبرى التي تواجه الأمة. وهكذا، تم بناء نظام سياسي سلطوي مغلق تمحور لاحقاً حول ما عُرف بـ”العائلة الثورية”. أما الرؤية الديمقراطية فكانت تُعتبر آنذاك ضعيفة وهشة وخطيرة في ظل الانقسامات الداخلية والتهديدات الخارجية المتربصة.

في سياق الستينات، لم يكن هناك بديل سوى النموذج المعروف بـ”الديمقراطيات الشعبية”. كان جيش التحرير الوطني (الذي تحول إلى الجيش الوطني الشعبي) هو الهيكل المؤسساتي الوحيد المنظم والمنضبط والموثوق. وقد أصبح العمود الفقري للدولة الجديدة، حيث أُوكلت له المهام الاستراتيجية والسياسية والأمنية. أما توجيه المجتمع فكان من اختصاص الحزب الواحد، جبهة التحرير الوطني.

تاريخ كل دولة مرتبط بضرورة تأمين شعب موحد بهوية وطنية. ولم تكن الجزائر استثناء. فمنذ جويلية 1962، انتقل الحكم من اللامركزية الثورية إلى سلطة مركزية صارمة، بحجة بناء الدولة. ومن دون سلطة عسكرية-سياسية صارمة، كانت البلاد مهددة بالفوضى.

لتجاوز الصراعات بين مجموعات المجاهدين، تم فرض احتكار العنف من طرف سلطة رأسية. ومن دون ذلك، لم يكن بناء الدولة ممكناً.

لقد تحقق تحرير البلاد بفضل الشعب بأكمله، لكن بناء الدولة لا يتم إلا عبر نخبة مؤهلة، وهي التي لم تكن متوفرة آنذاك. لذا، لجأ قادة الجيش، بعد السنوات الأولى المتخبطة، إلى مجلس ثوري حاكم، ثم تم نقل السلطة الفعلية إلى الشخص الذي استطاع فرض سلطته.

نتج عن ذلك إغلاق الفضاء السياسي، غياب حرية التعبير، وتعيين ممثلي الشعب من فوق. الذين حملوا السلاح لتحرير البلاد أصبحوا هم من يديرونها بعد الاستقلال.

هذا الحكم العمودي نجح في تثبيت سلطة الدولة وبناء أولى مؤسساتها. الحماس الثوري، والنشوة بالاستقلال، وروح التضامن، وسياسة انتقائية في الموارد البشرية ، كلها عوامل سمحت في البداية بتعبئة طاقات الأمة والشروع في تنمية اجتماعية.

لا شيء يدوم

لكن ما كان مبرراً في البداية تحول مع الوقت إلى غاية في حد ذاته. النظام، الذي ساهم في الإقلاع الاجتماعي والاقتصادي بعد الاستقلال، تطور إلى منظومة تعاني من خلل وظيفي وتكرس الرداءة. فالمركزية السياسية، والاقتصاد الموجه السيء التسيير، والإدارة البيروقراطية، والتسلط العقيم، كلها عوامل قادت البلاد نحو عقلية أبوية، شعبوية، ومتساهلة.

إيديولوجياً، تبنّت البلاد خطاً تقدمياً مناهضاً للإمبريالية، وارتبطت معاداة الاستعمار برفض الرأسمالية. هذا التوجه تعزز بطبيعة الثورة الشعبية التي سعت للعدالة الاجتماعية. لكن هذه الطموحات تحولت إلى شعارات ديماغوجية زادت من الإحباط الجماعي.

ولأسباب أمنية داخلية، ولحسم الخلافات داخل النظام، ساد منطق المحسوبية والجهوية والانتماء العائلي، مما خنق الدولة وعمّق الفجوة بين الحاكمين والمحكومين. هذا زاد سوءاً باعتماد اقتصاد ريعي أدى إلى قتل روح المبادرة وانتشار ثقافة الاتكال.

ورغم النوايا الحسنة، فإن الواقع الاقتصادي والاجتماعي لم يواكب الخطابات. وحدها عائدات النفط سمحت بتغطية العجز وشراء السلم الاجتماعي. لكنها فتحت أيضاً أبواب الفساد والنهب.

أحداث أكتوبر 1988 كانت أول هزة داخلية كبرى. حينها، فهم النظام أن الصيغة الصلبة للدولة لم تعد فعالة. ووسط صدمة الحداثة الغربية، دخل المجتمع في أزمة هوية حادة. فشل التحديث، وضياع المرجعيات، وانفجار التناقضات أدخل الجزائر في عقد كامل من العنف، قبل أن يستعيد النظام توازنه المؤقت.

استعادة هشة

أحداث الإرهاب في التسعينات، وارتفاع أسعار النفط في الألفينيات، منحا النظام السياسي مهلة جديدة. لكنه حافظ على قبضته، رغم محاولات الانفتاح الليبرالي بعد أزمة التسعينات. ومن الاشتراكية الإيديولوجية، انتقلت الجزائر إلى ليبرالية جامحة. فتمت تصفية القطاع العام لصالح أوليغارشية نفعية، وتحولت البلاد إلى سوق بلا رؤية سوى خصخصة الدولة والاقتصاد على الطريقة الروسية.

في المقابل، كما حدث في أكتوبر 1988، جاءت هبة فيفري 2019 كصرخة شعبية تطالب بتغيير جذري وإصلاحات حقيقية.

لكن، للأسف، أعاد النظام إنتاج نفسه، وكرر نفس الأساليب، وفعّل نفس الآليات القديمة. هذه القدرة على البقاء ليست تقدماً، بل دليلاً على الجمود. وكلما طال عمر نظام غير متماشي مع العصر، زاد من تدهور البلاد.

فقد تآكل رأس المال الرمزي للثورة، وتلاشت شرعية النظام. لم يعد الشعب يرى في الحكام أي شرعية، واتسعت الهوة بينه وبينهم.

ومع توالي الأزمات، لجأ النظام إلى القمع، وتظاهر بالانفتاح، وقدم إجراءات شعبوية. وبعد حراك 2019، عاد إلى المعادلة القديمة: القبضة الأمنية، الغلق السياسي، التحكم في الإعلام، الاقتصاد المركزي، وتوزيع الريع حسب الولاء.

كلما طالب الشعب بالتغيير، كلما تشددت السلطة. وكلما زادت الحاجة للحرية، زادت القيود. وكلما فقدت السلطة سيطرتها، أصبحت أكثر عدوانية.

اليوم، السلطة عزلاء أمام المجتمع: فقدت الشرعية التاريخية، ثقة الشعب، وحتى تماسكها الداخلي. الدولة فقدت هيبتها وسلطتها الأخلاقية. مؤسساتها أصبحت عديمة القيمة، ومليئة بالفساد. لم يبق من وسطاء بينها وبين الشعب سوى الشرطة والقضاء المسيس.

النظام دخل في حالة تدهور تُبطل كل المؤسسات والرقابة. يهاجم خدامه، ويدمر رجاله، ويبث الرعب في صفوفه. لم يبق له سوى العنف والدعاية البدائية. إلى متى؟

لقد أصبح من الضروري القيام بإصلاحات جذرية لإعادة بناء مؤسساتنا، ومعالجة أسباب الفشل السياسي، مستفيدين من دروس الانفتاح غير المدروس بعد 1988.

ما هي الإصلاحات؟

اليوم، يمكن تلخيص عيوب النظام السياسي البنيوية تمهيداً لإصلاحها:

  • رئاسوية مفرطة تميل إلى الزعامة
  • مؤسسات صورية
  • غياب الرؤية الاستراتيجية
  • إدارة متخلفة
  • محسوبية وزبونية
  • سيطرة الرداءة
  • هيمنة الإدارة على السلطة التنفيذية
  • تقييد الحريات الفردية والجماعية
  • إخضاع الاقتصاد لمصالح السلطة
  • توظيف الأحزاب وتحويلها لأدوات دعائية
  • إعلام تابع
  • قضاء مسلوب الإرادة

أي تطور سياسي حقيقي للجزائر نحو جمهورية جديدة يجب أن يمر عبر إصلاح معمق لهندسة السلطة. لا بد من فتح نقاش وطني. على صناع القرار أن يتحلوا بالشجاعة لطرح الأسئلة الجوهرية، بغية الوصول إلى حد أدنى من التوافق لبناء دولة جزائرية دائمة تتجاوز الأشخاص والظروف.

إنه مصير أمة بأكملها!

قابة

Recent Posts

بيان مشترك: جيل جديد – الأرسيدي – حزب العمال

نحن، الأحزاب السياسية الموقعة أدناه، إحساسا بروح المسؤولية وتمسكا بمصالح بلادنا، قررنا مع إحترامنا لإختلاف…

يومين ago

دولة غنية، شعب مُكبَّل، وشباب تائه.

إن الحزب السياسي، وخاصة إذا كان في صفوف المعارضة، من واجبه أن ينتقد، وأن يقدم…

أسبوعين ago

قانون التعبئة العامة… دلالاته وتوقيته

في خضم التوترات الجيوسياسية المتصاعدة على الصعيد العالمي، ندرك نحن الجزائريون أن بلادنا ليست بمنأى…

أسبوعين ago

«مع تجارة الكابة، يتم تقويض دعائم الدولة!»

Algeriepatriotique: أطلقتم تصريحًا غاضبًا على منصة "إكس" بعد قرار تسوية تجارة "الكابة"، الذي تعتبره السلطات…

4 أسابيع ago

نهاية عهد

بقلم: سفيان جيلالي دخلت الجزائر منذ عقد من الزمن المرحلة النهائية من عمر جمهوريتها الأولى.…

1 شهر ago

الجزائر: لحظة الاختيار التكنولوجي – من باندونغ إلى الذكاء الاصطناعي، نهاية عدم الانحياز

الجزائر: لحظة الاختيار التكنولوجي – من باندونغ إلى الذكاء الاصطناعي، نهاية عدم الانحياز بقلم: سليم…

شهرين ago